مواقف وشخصيات في حياتي

مع الشيخ صقر القاسميّ في القاهرة (1)

الشيخ سالم العبري – سلطنة عُمان


  ربما يكون هذا البيت من من قصيدته (سلاف الأنجم) ومن شاعر بمنزلة الشاعر الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة (الأسبق) هو بمثا بة وسام على صدر شخص مثلي كان كهلا بالعمر وشابا على السلم الوظيفي لكنه جمع حوله  شخصيات ومفكرين قد لا تجتمع  إلا لوظائف عليا وأمام القصور ومكاتب الشركات.
وبين الفينة والأخرى أتساءل: ما السرُّ الذي مكنني من هذا الحب، وهذا الالتفاف الثري حول تلكمُ الجموع التي تحلّقتْ من حولي؟ ويأتي ملحق عمان الثقافي ليقول (مصر تودِّع سالم العبري بديوان شعر أو  قال بكتاب شعر).
حين كنت بمبنى الإذاعة والتلفزيون (ماسبيرو) متدربا في سبعينيات القرن الماضي حظيت بقبول من كل الفئات: رؤساء وتنفيذين ومذيعين ومحررين  وفنين بهندسة البثّ الإذاعي والتليفزيوني والبسطاء النادلين.
هل البساطة أم الإباء أم الوطنية التى ألهمنا بها آباؤنا أم فترة المدّ الناصريّ أم التربية السياسية على منبر إذاعة (صوت العرب) الذى كان صوت الأمة والبشرية  آنذاك حيث صرت تلميذا به أجوب أرجاءه وأقضي الساعات الطوال من اليوم وتليها ساعات من الفجر التالي حتى يغلق صوت العرب قبيل الثانية فجرا، أم إن ما دمجني مع شخصيات بارزة كالأستاذ أمين بسيوني، و محمد الدالي، و وجدى الحكيم ومحمود سلطان، وفاروق شوشة، وأحمد الجبيلي وأمنية كامل، و ميرفت رجب، والجيل الجديد في حينه من أمثال آمال معوض، وزينب عبد الرحمن، وزكريا خليل ومحمد الشناوي..   إلخ
نعم أظن أن هذا كله شكّل مزيجًا في بناء شخصيتي وهو من عوامل نجاحي بالعمل الإعلامي كأول إعلامي بالسفارة العمانية في القاهرة، وربما كان ذلك مرعيا عندما استدعاني معالي الوزير عبد العزيز الرواسي مرشحا لي لهذه المهمة.
عود على بدء أعود مرةً أخرى إلى حكايتي مع الشيخ صقر القاسميّ فلم تكن معرفتي بالشخصية الإبداعية والشعرية تحديدا للشيخ صقر جديدة؛ بل كانت دواوينه الأُول في خزانة بأعلى فرش نوم بالرف الغربي الشمالي مز الغرفة الغربية ببيت المغري والتى كانت مخصصة لأبي وعائلته من أصل ثلاث غرف كانت غرفة الشوى لجد وغرفة المال أي المحاذية للمقصورة  للعم سعيد وأخواته العمات عائشة وثريا، وكان أبي يزور المشايخ بالشارقة منذ باكورة عمره، وكذلك مشياخ دبي ربما إلى جانب الصلات المتبادلة بين كثير من شخصيات قبائل عمان والشخصيات الحاكمة والقبائل بما يسمى سابقا ساحل عمان (الإمارات العربية المتحدة الآن) وربّما لأنه كان يمارس أحيانا في فراغه مهنة التجارة ويشجعه أخوه غير الشقيق عبد الله بن محمد بن سالم بن بدرالعبري رفيقه وزوج أخت زوجته أمي، ثم إن علاقات متشابكة كانت تربطنا من كل حدب وصوب؛ فقد كان بعض من عسكر حصن دبي مع الشيخ سعيد بن مكتوم  وزوجته الشيخة حصّة  وكانوا من العبريين  إلى منتصف  القرن الماضي الهجري وقد وجدت منهم على بن محمد  وسليم بن راشد وكان  سلام بن حارب بن ريحان معهم، ووجدت شويرد  وكان قد اختطفه قطاع طرق من خارج الحمراء  فباعوه حتى وصل دبي  وهو يعلم أن بالحصن عسكر من بلده  فبحث حتى أمكنه الوصول للحصن وكان ذا قرابة مباشرة بسلام   فرتبوا له الخلاص وعاد إلى الحمراء.
وربما لوبقي في (دبي) لتغير حاله مع النهضة التي نشأت هناك فيما بعد، ولكن في حينه كانت  الحمراء أكثر جذبا  وهي الوطن الرؤوم الحنون و لو كان خيمة.
فحين باشرت العمل لم يكن الشيخ صقر قد عاد إلى القاهرة عرين العروبة حيث قضى فترة إبعاده عن وطنه بعد إقصائه عن الإمارة من الانتدابية البريطانية نظرا لميوله التحريرية  وأشعاره القومية الناصرية النزعة، ثم هو أيضا داعية وحدة قطرية ووحدة الأمة العربية، وهو في شعره يتغني بالثورات العربية في مصر والجزائر والعراق، بل وكان يتفاعل مع الحراك العماني، ولكن المندوبية البريطانية وظّفتْ الشقاق الحادث بينه وبين أبناء عمومته فأبعدته  وظل يتغني ويناضل بالكلمة الشعرية في ميدان الاستقلال، وداعما للحروب العربية ضد الغاصب المحتل ومتنقلا بين القاهرة وبيروت يصدح بين أقرانه من شعراء العروبة وعلى تواصل ومشارك بجميع الحركات التحررية وفاعلا في المؤتمرات القومية وله حضور في الساحات الشعرية والجمعيات النقابية التى كانت نموذجا للحياة النشطة والمواكبة لفعاليات الأمة العربية الثائرة والحالمة  بغد مشرق بالوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية التى كانت بمثابة أيقونات الاشتراكية العالمية، وما إن تم انسحاب بريطانيا ظاهريا من شرقي السويس تحت ضغط المد التحرري العربي وشعوب العالم الحر فمثلت له دفعة شجاعة وبثت في روحه فحولة وثقة بالتحولات التي تشهدها المجتمعات العربية فنهض محاولا استلام المقاليد التى كانت بيده في الشارقة لكن قوة الاتحاد الناشئة حالت بينه وبين ما يشتهي فلبث في السجن بعد محاكمة  على يد قاض غاب العدل عن مجلسه فأسهب الشيخ بتقريعه والتمثيل به وبعدالته المنكرة - من وجهة نظره -، ثم أُفرج عنه بعفو كريم  من الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات الذى ما فتيء  يذكره ويثني عليه مقدِّرا له ذلك التصرف حتى وفاته - رحمه الله -  كما تبين لى، عندما عاد إلى لقاهرة  ليتلف حوله من بقي من رفاق الفكر والعزيمة  والتطلع لغد يتمناه كل المصلحين والحالمين بغد مشرق لأمة أتعبت مهج كل أحرارها ومريدي التقدم والوحدة والحرية لها.
لكن القاهرة التى انطلق منها الشيخ صقر بن سلطان القاسمي بُعيد وفاة الزعيم جمال عبد الناصر تغيرت وتبدّلت أحوالها وأضحت قاهرة غريبة السمت والملامح إنها ليست هي!  فهؤلاء الذين كانوا يعاملون كأبطال وطلاب حرية للأمة في قلب القاهرة صار يُنظر إليهم بعين عوراء  وكأنهم عبء و أدعياء أمر  لا مؤذن له  من أمثال الشيخ ورفيقه الرائد محمد رائف المعري الذى وقف ضد الانقلابين على الوحدة التاريخية  بين مصر وسوريا و من غير المصادفة أن يلتقي عملاء الصهيونية العالمية تحت مظلة الرجعية والعمل سويا ضد الوحدة والقومية العربية  فكنا في الماضي نراهم يتشدقون بالعروبة والأخوة وروابط الدم والإخاء واللغة والتاريخ وفي الخفاء يدعمون الانقلابين بملايين الدولارات، ثمّ تبدلت الأحوال أكثر مع توالي السنين العجاف على الأمة؛ فصار دعم أعداء الأمة وأنصار الفرقة جهارا نهارا بلا حياء أو مواربة.
عاد الشيخ صقر وقد تغير حال الزمان، وحال المكان وتغير الشيخ نفسه،  و لو قليلا  لقد أنهكه السجن  وترك أثرا على حركته، فأصبحت العصا ملازمة له يتوكأ عليها في مشيته الوئيدة، وأمسى الجميل قيدا عليه ولو من الأهل، فحتى البيت الذى يقيم به في (ضاحية مصر الجديدة) بالقاهرة عند تقاطع شارعي العروبة والمأمون  قد هيأته له دولة الكريم الشيخ زايد بن سلطان  وكان يعتبره بمثابة عُهدة لديه لا ينبغي أن يبدل به  أويغيّر بمقتنياته وكان البيت/القصر يحوي تمثالا عاريا وذات ليلة وجد الشيخ أحد الشعراء من زوّاره قد انتصب يقلّب النظر مليا فيه وصوّر ذلك الموقف في أبيات شعرية  فلما  اقترح المقربون على الشيخ نقله  أفاد أن البيت عهده  ولا أريد أن أحدث تنقيلا أو تحريكا فيه وفي أثاثه الذى  وضع بإطار تنسيقي فني، لكن ما لم يدرك كله لايترك جُلّه أو جزؤه  فظل مرتبطا بزملائه وأقرانه من الشخصيات  والكتَّاب  والشعراء والصحفين فانتظم أحرار العروبة الباقية في بيته وصالونه، وتواصل مع العُمانيين  من زملائه في الموقف والفكر والغربة وممن بقي على قيد الحياة ولم يعد أدراجه لـ(مسقط)، و(القابل)، و(بدية)، و(نزوى).. الخ.
وقد سمع من البعض كالدكتور مصطفى الشكعة، ورائف المعري أنني أتفاعل مع الصحفيين والمثقفين تفاعلا قد لم يكن مألوفا مع أمثالي بسفارات مماثلة وإنني عمدتُ إلى إقامة لقاءات موسمية كرمضان وإلى تنظيم صالون دوري يضاهي الصالونات القائمة بالقاهرة آن ذاك، فبعث إليّ مع رائف المعري والأستاذ علي هاشم  رشيد  بدعوته الكريمة  وعهد إلى لشيخ يحي بن عبد الله بن سليمان النبهاني أن يأخذني معه لتأكيد الحضور فكان ما أراد وذهبت إليه بمعية الشيخ يحي النبهاني في إحدى أمسياته في مطلع عام 1986 م   فإذا الحضور عربي كاملا ولا يخل من تمثيل أقطار العروبة الحيّة، وقد غصَّ الصالون رغم اتساعه وانفتاحه على ردهات القصر لكن العمر كان قد تقدم بغالبية الحضور إنهم شعراء القرن 20  وثوار الحركة القومية  وأساتذة النهضة بالجامعات العربية، وسالم العبريّ لا يطاولهم فيما هم به وما اشتهروا به  وسنُّه تماثل أعمار أبنائهم وربما أحفادهم، ويتواضعون ليجلسوه وسطهم وفي صدارة المجلس وخلقه يأبي عليه، وإكرامهم يعلو على أدبه فأخذ موقعا له حيث أرادوا  وبدأ يتأمل وجوها ما عهدها من  قبل؛ عراقية، وشامية، ومغارببة، وخليجية، ووجوها سمراء كأنها من جنوب مصر، أو من منابع النيل حيث السودان الذي كان ضمن مصر سياسا وجغرافيا؛ لكن إيمان ثورة يوليو بحق ذلك الجزء تركت لسكانه حق تقرير المصير ما بين طريقين إما إطار سيادي ضمن مصر، وإما كيانا مستقلا منتميا عروبيا وإسلاميا للأمة وذلك حقهم يقررونه بمحض إرادتهم.

تعليق عبر الفيس بوك