أساطير سليمان.. من عُمان إلى السودان

محمد علي العوض

حين عجز الإنسان عن تفسير الظواهر الطبيعية المحيطة به كغروب الشمس ودوي الرعد وزخات المطر، عمد إلى تفسيرها وفق هواه، ونسج حولها عددًا من الأفكار، كانت إيذًانا بميلاد الأسطورة؛ فهي أول مغامرة إبداعيّة خاضتها المُخيلة البشرية لفك طلاسم الغامض واللاهوتي والميتافيزيقي؛ لذا فسرها كاسبر على أنها شكل من أشكال الوهم يقوم في جوهره على رغبة الفرد في الشعور بوجود هُوية بينه وبين المُجتمع والطبيعة.

نسجت الشعوب كثيرًا من الأساطير حول أبطالها ورجالتها؛ لا سيما الأولياء الصالحين والأنبياء المصطفين، الذين كرمهم الخالق -عزَّ وجل- بأن أجرى على يديهم المعجزات التي تبين قدرته، ولتكون حُجةً له على أقوامهم وإثباتا على صحة الرسالة.

سيدنا سليمان الذي آتاه الله العلم والحكمة، وعلمه منطق الطير والحيوانات، وسخر له الرياح والجن، لم يكن بدعًا من ذلك النسج؛ فلم تسلم سيرته الشريفة من نسب بعض الأساطير إليه، ومن ذاك ما يروونه حول مدينة "سواكن" بشرق السودان، التي يُرجعها بعض الخيال الشعبي السوداني إلى عبارة "سوّاه-جِن"، أي شيَّدها الجن، فتم تحريف العبارة.. ودليلهم في ذلك أنَّ مبانيها الضخمة لا يستطيع بناءها إلا "الجن". بينما ترد مصادر أخرى التسمية إلى كلمة "سواجن" مِنْ "سجن"، وأنَّ سليمان -عليه السلام- اتخذها سجنا للجن العاصي والمخطئ.

وتقول وقائع الأسطورة: ((أن أحد ملوك الحبشة أهدى سيدنا سليمان سبعين جارية، فأرسلهن إليه في سفن شراعية كبيرة أبحرت من ميناء "مصوع" على البحر الأحمر.. أرادت السفن أن تأخذ استراحة طريق، فألقت مرساتها بمدينة سواكن لبعض الوقت. بعدها أبحرت إلى ميناء العقبة، ومنها برًّا إلى بيت المقدس "أورشليم". بعد انقضاء مدة من الزمن، ظهرت على هؤلاء الجواري آثار حمل، فأمر سليمان بفتح تحقيق في الأمر، كانت نتيجته اعتراف رؤساء السفن بأنّ السواكنيين (أو الجن كما يزعمون) وطأوا تلك الجواري لمَّا هبطن إلى ساحل الجزيرة البري، فأمر سليمان -عليه السلام- بردهنَّ إلى سواكن، وأن يُقمن بها إقامة دائمة. فاندمجت الجواري وذُرياتهنَّ في مجتمع الجزيرة. كما أمر بأن تُصبح جزيرة سواكن سجناً للمجرمين)). ويقال إنّ الجن ما زال موجودًا حتى الآن، لكنه جن مسالم، ويتمثل في شكل قطط سوداء ضخمة، تروي الحكايات الشعبية قصصا خرافية عنها؛ منها أنّها تناجي بعضها ليلا، وتحادث النّاس، وتضيء بعيونها الضخمة عتمة الليل، وأنّها تقترب منك عند تناولك الطعام فإذا لم تعطها تخطفه عنوة منك، وأنّ نظراتها "المُبحلقة" هي عبارة عن كلام ورسائل مرسلة عبر لغة العيون.

أمَّا عن أساطير النبي سليمان في عُمان، فينسب بعض المؤرخين تاريخَ إنشاء الأفلاج في عُمان إلى أسطورة قديمة تشير إلى أنّ سيدنا سليمان هو أول من أنشأ الأفلاج في عُمان، وتقول الأسطورة: ((بينما كان النبي سليمان يركب بساط الريح في طريقه إلى بيت المقدس، مرَّ بعُمان، فرأى من الأعلى قلعة "سلوت" بولاية قريات، فسأل الهدهد مُستخبِرا عنها، فأخبره الطائر أنَّ القلعة غير مأهولة بالسكان، حط بُساط النبي -عليه السلام- فوق القلعة، وأجال بصره في المكان فوجده صحراء جافة، فأصدر أوامره للجن المُسخَّرة بأن تحفر ألف قناة كل يوم))؛ وتقول الأسطورة أنّ المدة التي مكث فيها سيدنا سليمان بقلعة سلوت عشرة أيام؛ كانت حصيلتها عشرة آلاف نهر تفجَّرت في أنحاء عمان، أو ما يُعرف حاليًا بالأفلاج الداودية.

ويعضِّد ذلك ما رواه الصحاري في "الأنساب" بقوله: "ويقال، والله أعلم، أن سليمان بن داوود عليهما السلام، دخل عُمان، وأهلها بادية، فأقام فيها عشرة أيام. وأمر الشياطين في كل يوم يحفرون ألف نهر، فسار منها. وقد جرى منها عشرة آلاف نهر" (ص:433). ويضيف أنّ سليمان بن داود -عليهما السلام- سار من أرض فارس في قلعة اصطخر إلى عُمان نصف يوم، ونزل موضع القصر من سلوت من عُمان، وهو بناء جديد كأنما رفع الصُّناع أيديهم منه في ذلك الوقت، وإذا عليه "نَسْر" فسأله نبي الله -عليه السلام- عنه، فقال: يا نبي الله، أخبرني أبي عن أبيه عن جده أنّه عَهِدَه على هذه الحال، فقال في ذلك بعض الشياطين الذين صحبوا سليمان عليه السلام:

"عدونا من قرى اصطخر.. إلى القصر فقلناه

فمن يسأل عن القصر.. فمبينا وجدناه

يقاس المرء بالمرء.. إذا ما المرء ما شاه

وللشيء على الشيء.. مقاييس وأشباه".

وجاء في "كشف الغمة" لسرحان بن سعيد الأزكوي، أنَّ الإمام مالك بن فهم الأزدي بعد أن قتل المرزبان، أعطى الفرس مهلة سنة واحدة ليخرجوا من عمان "فقيل إنَّ الفرس في تلك المهادنة طمسوا أنهاراً كثيرة وأعموها، وكان سليمان بن داود -عليه السلام- أقام بعُمان عشرة أيام، وقد حفر فيها عشرة آلاف فلج، وطمس الفرس أكثرها في مدة الصلح التي طلبوها" (ص:22).

mohamed102008@windowslive.com