قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

الأنا والآخر في "ابتسامة الجدي" لـ ديفيد غروسمان(2-6)

أمين دراوشة – أديب وناقد فلسطيني – رام الله

 

في الحلقة الثانية مع رواية "ابتسامة الجدي" لـ ديفيد غروسمان نؤكد ما تطرقنا إليه في الحلقة الأولى بأن غروسمان عمل على البحث في شخصية العربي من خلال كلامه، لذلك امتازت الرواية بكثرة المفردات العربية من أسماء نباتات وأطعمه، كما ورد فيها بعض مقاطع من الأغاني الشعبية الفلسطينية في محاولة للخروج من القالب النمطي للشخصية العربية في الأدب الإسرائيلي. لذلك تشكل “ابتسامة الجدي” محاولة غير  معتادة في الأدب الإسرائيلي لفهم الشخصية العربية من خلال حكايته الخاصة، "واستكشاف المساحة المحتملة أو الممكنة التي يمكن أن يحتلها العربي في حكاية الإسرائيلي عن نفسه، وبالتالي حدود الاعتراف بدوره كمكوّن لا مفر منه ـ سواء بالسلب أو الإيجاب ـ من مكونات الهوية الإسرائيلية لنفسها"
ذاكرة من الحقد:
كاتسمان هو الحاكم العسكري للضفة الغربية، عمره تسعة وثلاثون عاما، وشكله الخارجي مضلل، "وجهه بلا عمر، وجنتاه غائرتان، وجسده ضامر طويل، يتسم بالهزال أكثر من الفتوة" ـ (ص30) . هذه الصفات التي أصبغها عليه الكاتب، تدلل إنه يخفي خلف قسوته، إنسانا هشا وضعيفا. جلب من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد موت والديه، وتبنته عائلة تعيش في كيبوتس صغير. "عيناه مرهفتان وشهوانيتان حتى في طفولته، تحفهما أهداب سوداء سميكة" ـ (ص31). وتسببت الحفرة التي عاش فيها مع والديه هربا من القتل في شلّ شفته العليا، إذ أفسدت عصبها نزلة من البرد. هو ناج من المحرقة، وقد دفع والده كل ما يملك لفلاحة بولندية، لإخفائه وعائلته في حفرة. والدته عملت عازفة كمان في جوقة وارسو، ودخلت مستشفى للأمراض العقلية بسبب الاكتئاب. ووالده درس الأدبين الإيطالي والأسباني، ويؤلف كتابا "عن التماثل الأخلاقي بين أورلاندو نوريوس ودون كيشوت": الأولى للشاعر الإيطالي لودفيكو أريوسطو (1474-1533) والثانية للروائي الأسباني ميغل دي سرفانتس (1547-1616)، وفقدت المخطوطة إثناء هرب العائلة، وكان عمر كاتسمان في ذلك الوقت ست سنوات.
ولأن ذاكرة الأب لم تكن قوية، استخدم عقل ابنه الطفوليّ "استخدام اللوح النظيف" ـ (ص197)، فتعلم كاتسمان القراءة والكتابة في الحفرة. ثم ماتت أمه في الحفرة، ووالده مات بعد الحرب الثانية بوقت قصير، ولم تر المخطوطة النور، لأن والده أصيب بنوع من الجنون.
وعن الوقت الذي قضاه في الحفرة، يقول ليوري: "سنوات، كانت أمي تحتضر، تبصق الدم، وتخدش نفسها حتى الموت. لم نستطع عمل شيء من أجلها. كنا في حالة مروعة من الخوف" ـ (ص200). وسوف يلازمه الخوف إلى الأبد، فيحس بالاغتراب، و"يخاف من الشعور ويكره العالم ويريد أن يدمر كل شيء حوله. حياته هي تجربة هدفها تصديق الافتراض أن أحدا لا يتكلم الحقيقة وما من أحد على حق" (3) والحفرة ستظل تطارده ما دام حيا، ففيها تعلّم أن يعرف ماذا يحدث في العالم من فوقهم، من خلال ضوء خافت، من هبة ريح، ولم يعد قادرا على التمييز بين الأشياء الصغيرة وقوى الطبيعية المرعبة، فكلاهما بالنسبة إليه مخيف.
في الكيبوتس أعتز كإنسان منبوذ باستطاعته إحداث الإرباك لأعضائه، "لكنه أدرك انزعاجهم الصريح... فبدأ ينمي في داخله نواة صلبة متضخمة من الكفاءة الذاتية بمثابرة هائجة وقاسية تشارف حدّ كراهية الذات، وينمي مدارك واقعية مستقلة"ـ (ص31).
التقى يوري في جنوب إيطاليا، حيث تطوعا للعمل في الصليب الأحمر حين ضرب زلزال مدمر سانت ارنيللا. وشعر كاتسمان براحة واطمئنان معه، فأخبره عن فترة حياته التي قضاها في الحفرة. وأدرك "أنه رغم تقدمه في السن ورغم ابتعاد الفسقية (الحفرة) في الماضي، إلا أنه ما زال يضع أذنيه على الأرض لسماع أصوات ناجين محتملين في جوفها، أو في ذاكرته. سينتمي دائما إلى أولئك الناس. هم لم يكونوا أناسا حقيقيين في الواقع، بل مصادر غامضة للعذاب" ـ (ص35). وسيبقى غريبا، منفيا، وحتى وهو يخبر يوري بقصته "شعر بعذاب المنفى الأبدي فجأة، وفي أكثر تلافيف دماغه ظلمة رأى صور لكاتسمانيين قد وضعا مقلوبين إلى جانب بعضهما البعض كالصور المرسومة على أوراق اللعب" ـ (ص35). وهو لا يستطيع الخروج من ذاته المنغلقة، وحتى لا يقع في حب شخص، ويتعلق به، كان يتسبب بالأذى لمن يهتم بأمرهم، كما أنه فقد الإحساس بألم الآخرين، فكان تأثره لرؤية مشاهد الزلزال طفيفا، لأن الأرض كانت "دائمة الاهتزاز تحت قدميه، والناس يقتلون بعضهم البعض دائما" ـ (ص37). لكنه يحس بالرعب والخوف من الفضاءات الواسعة، كالسهول والمحيطات، بل من كل ما هو مفتوح ورحب، سواء أكان ذلك في الطبيعة أو في شخصية إنسان.
وهو يعترف بأنه لا يشعر بالطمأنينة إلا في أحضان امرأة، رغم كونه لم يطل البقاء مع امرأة قط، حتى عندما تزوج، لم يدم زواجه طويلا، وظلّ يرفض فكرة الإنجاب، لأنه لا يريد طفلا يعيش في عالم لا يرحم. إنه "لا يؤمن في الواقع إلا بغريزة البقاء المؤلمة، التي لا تتجلى إلا في أوقات الخطر الداهم" ـ (ص37). وبسبب طفولته المأساوية، وفقدانه والديه، ونشأته غريبا في كيبوتس صغير، حاول أن يحقق ذاته، فوصل إلى مرتبة عليا في الجيش الإسرائيلي، لكنه لم يستطع التخلص من الشعور بالعزلة والقلق، فعندما شعر بالضيق في مكتبه، مثلا، عبر عن نفسه بالعنف فرفع "صمام الأمان من مسدسه بحركة لا إرادية، وقف قبالة الحائط وأطلق النار على قاعدة القفل... انفتح الباب ببطء، وخرج" ـ (ص40). إنه يعجز عن تحقيق الانسجام في حياته. وهو غير قادر على لملمة شتات نفسه، لا يعرف من يكون "أنت لا تعرف من أنت ولا ما في نفسك، ولن تعرف أبدا إلا إذا أخرجته" ـ (ص)95. وهو لا يحتمل مواجهة حقيقة نجاته من المحرقة، وأن عليه الاستمرار في حياته بشكل طبيعي، وحقيقة كونه ضابطا احتلالياً يمارس أقسى أنواع العنف والظلم بحق سكان لا ذنب لهم فيما جرى له في أوروبا.
ولأنه يمارس الكذب ويبرع فيه، يعرض على صديقه يوري الحضور للعمل معه، وعندما يسأل يوري، لماذا تحتاج إلي؟ يرد: "للاعتناء بي، لخلق الصلة بيني وبين العذوبة التي فقدتها" ـ (ص285).  
وهو يبرر أفعاله ضد العرب، بكونه مضطرا لذلك، فينسف البيوت، ويروّع الناس، ويقبض على الأطفال، ويقول إنه كان يملك كثيراً من المشاريع للتغيير. ويخاطب يوري: وجودك جنبي يدلني على الطريق، ويذكرني بالأشياء التي نسيتها، وفي نفس الوقت يمكنك تحقيق رغبتك في مساعدة السكان العرب هنا.
وفي نهاية الرواية، يكتب كاتسمان رسالة إلى يوري المتواجد في مغارة حلمي في عندال ليخبره أن سبب قبوله منصبه هو محاولة للعثور على نفسه، "ورؤيتك يا يوري وبراءتك أعطتني الأمل في محاولة عمل شيء خيّر، ولكن وقع كل شيء بطريقة خاطئة في جوني، فالحديد يصدأ، والأحلام أشياء تستحق الازدراء... أحضرتك إلى هنا لتلويثك، لهزيمتك، كي أراقب انهيارك، وأرغمك على الاعتراف بغلطتك، وبالكذبة التي تعيشها. كفّ عن الابتسام بهذه الطريقة يا يوري" ـ (ص290).
كاتسمان شخص عدمي، لا يؤمن بالعدالة، ولا بوجود الحقيقة، وتجربته الشخصية مع أحداث المحرقة أدت إلى انهيار عالم القيم لديه، ومال إلى الاغتراب في هذا العالم. وهو يريد أن يثبت ليوري المثالي، أن لا شيء يستحق القتال لأجله، وأن يوري مثله ومثل شوش وإبنر، يكذب ثم يعيش في الكذبة التي اخترعها. وكاتسمان وشوش ويوري، شهدوا "مفاهيم تذوب وتتلوى من الألم" ـ (ص290). وعندما وافق يوري على العمل مع كاتسمان، أدرك كاتسمان وشوش أن لا شيء سيبقى على حاله. "حدّق كاتسمان ببرود إلى شوش، تابع تمزّقها. ها هو طفلها - رجلها، الذي لم تتأكد بأنها تريده أو تستحقه. وها هو الغريب الشاحب الوجه المتعفن من الداخل، يستنزف قواها، ووجودها من الداخل" ـ (ص291). وخداع يوري من قبل شوش وكاتسمان، وخيانتهما له، تشعرهما بالمرارة، فلا يتبقى من علاقتهما غير "الشهوة الجامحة وإحساس الضياع. حتى عندما يمارسان الحبّ، يضطران لمكافحة زيفهما الخاص ويأسهما و"ابتسامة الجدي" ـ (ص224).
لا شيء قادر على تغيير كاتسمان، فالحفرة التي عاش فيها ستبقى تلاحقه. إنه لا يؤمن بالتغيير، وهو "فارغ وعاجز عن الحب لأنه يرفض تعريض نفسه للألم" ـ (ص145). أما شوش فهي الأخرى عاجزة عن الحبّ، ويقول لها كاتسمان إنها عاجزة لأنها لا تترك نفسها على طبيعتها، وتتحمله شوش، لأن الكل في الرواية ليس على طبيعته، الكل يخترع الكذب، ويكذب على نفسه والآخرين في محاولة للاستمرار في العيش وسط حكاية لا يمكن تصديقها. أما يوري فيكشف متأخرا خداع شوش، وخيانة كاتسمان، ويعتبر إحضاره إلى جوني من قبل كاتسمان "كنوع من الغطاء لنفسه" ـ (ص253). والنتيجة النهائية للرواية هي "أن الكلمات تخوننا على المستويين السياسي والاجتماعي. وتقع الشخصيات ضحايا للخداع الذي يقومون به. وتصبح الكلمات مجرد أساطير شخصية تخلق حقائق ليس علينا أن نتمسك بها" (4)  والخداع الممارس هنا هو خداع الذات هروبا من الحقيقة.
تعلم كاتسمان أن يكون مخادعا في تقاريره للحكام العسكري، ومراوغا مع جنوده، وفي إيجاد المتعة في إذلال رئيس بلدية جوني العربي الفلسطيني. رئيس البلدية، ينتمي إلى الجيل القديم من القادة الذين صنعهم الاحتلال، وهو "رجل ممتلئ الجسم تشل حركته الضغوطات من كل جانب. فقد عزة النفس، وبدا صوته واهنا وبعيدا" ـ (ص162).
رجع كاتسمان إلى مكتبه بعد أن طلب إحضار رئيس البلدية، ليؤنبه على الجرائم التي اقترفها أهالي جوني "مظاهرة في مدرسة البنات قبل أسبوع، رجم دورية للجيش بالحجارة في حارة السعدية" ـ (ص162). رد رئيس البلدية "بضراعة عاجزة" ـ (ص163)، أنكم حققتم مع جميع البلدة، ويمكن أن الأولاد جاءوا من قرية أخرى. وكاتسمان لم يسمع توسلاته، بل أجابه أنه باسم القانون "سيتم نسف بيت عائلة القديمي وتشميع بيت العائلة الأخرى، فالمكان شديد الازدحام هناك ولا نستطيع استخدام المتفجرات"ـ (ص163). ترجاه رئيس البلدية وتوسل إليه بصوت خافت أن لا ينسف البيوت دون جدوى، وعندما أعلن أنه سيرفع منع التجوال ساعتين ليتزود السكان بالطعام، كان رئيس البلدية "يجهش بالبكاء" ـ (ص165).
هنا تظهر أحد الشخصيات الفلسطينية الوضيعة، والهشة، والتي باعت نفسها للاحتلال، وارتضت أن تكون ميسرة لعمل جيش الاحتلال البغيض، ومع ذلك لم يشفع لها موقفها المتخاذل عند الحاكم العسكري، الذي يتلذذ دائما بإذلالها واحتقارها والتقليل من شأنها.
ويحاول الكاتب عبثا إظهار إنسانية الاحتلال، حين يكتفي كاتسمان بإغلاق منزل عائلة فتى فلسطيني قتل باشتباك مسلح، لأنه لا يمكن استخدام المتفجرات لكثرة ساكنيه، حتى إنه يشعر بالزهو لعدالة قراره ويفكر "يا لكم نبدو متنورين وإنسانيين!"ـ (ص163). لكنه لا يخفي أنه يكره صور "البلدة التي تتخللها أزقة معادية، وتتظاهر بالاعتدال تحت قشرة من الغبار" ـ (ص164).
ويظن كاتسمان أن الفلسطينيين يجب عليهم تقديم الشكر للاحتلال، لأنه احتلال إنساني ورحيم، يعمل على تطوير الشعب الجاهل الذي لا يعرف مصلحته، وهو "لم يشعر بكراهية العرب الذين عاش إلى جانبهم من قبل، ولم يحبهم أيضا. ولا يرغب باستمرار احتلال أراضيهم، لكن قيام دولة فلسطينية تستمدّ طاقتها من كراهية إسرائيل، فكرة مخيفة في نظره" ـ (ص166). هو لا يرى الشعب الفلسطيني، ولا يحس تجاهه بأية مشاعر، حتى لو كانت مشاعر الكراهية والحقد. لا يرى سوى فلسطينيين لا يمكن الثقة بهم كونهم مجبولون على العنف والإرهاب، وكراهية إسرائيل، لذلك، وعلى الرغم من محبته للسلام كما يقول، فإن هؤلاء لا يمكن أن تقوم لهم دولة، أو أن يتمتعوا بالحرية.
ويتوصل كاتسمان أو الكاتب "إلى نتيجة كئيبة مفادها عدم وجود وسيلة للخروج من المأزق"ـ (ص166)، ولكنه بعد تفكير عميق، يجد الحل الأمثل في أن الاحتلال سيتصف "بطابع إنساني بفضل الصدق والإخلاص" ـ (ص166)، وهذا أقصى ما يقترحه كاتسمان أو الكاتب على الفلسطينيين.
ولم ينجح الكاتب من التخلص من الإرث الأدبي الإسرائيلي في إطلاق الصفات النمطية على الشعب الفلسطيني، فالفلسطينيون إرهابيون، وهم جبناء وخوافون، وبينما المختار يسير برفقة الحاكم العسكري، ويسأل أهل البلدة عن أقارب حلمي، لا ينجح كاتسمان في سماع شيء من المختار، لأنه "كان يحدق مدهوشا في جداول العرق المتصببة على جانبي أنف المختار. هناك خلل ما في غدد العرق لدى هذا الرجل"ـ (ص207). وكاتسمان لا يثق بالسكان الفلسطينيين، فعندما وقع نظره عليهم، فكر "كأنها حيوان يجوس في الظلام، هذه الغرائز الطبيعة لمليون من البشر الذين أحبطت رغباتهم وكبحت. إنها مادة حية لا تقبل التدمير. الغضب يتصاعد، وتقطر القطرات الصغيرة العنيدة للعبث ببطء لتشكل رواسب كلسية" ـ (ص212). مع ذلك فهو يعلم أن الفلسطينيين، لا يمكن أن يكونوا مجرد حيوانات مطيعة وسهلة الانقياد للاحتلال. بل هم بشر لهم أحلامهم ورغباتهم التي لا بد لها أن تتحقق يوما، مهما حاول الاحتلال إطالة أمده، فهناك "في كل رغبة محبطة يراوح خطر ما. وفي كل انحناءه خضوع طاقة تكفي للوقوف بكبرياء" ـ (ص212). وهنا استطاع الكاتب أن يقول إن تحت الهدوء تكمن العاصفة، فالشعب الفلسطيني لن يحتمل الإذلال ووأد أحلامه وطموحاته، ولا بد أن يأتي وقت يثور فيه. وكأنه كان يتنبأ بانتفاضة الشعب الفلسطيني العظيمة في عام 1988م، التي أثبتت أن على أرض فلسطين شعب يستحق الحياة ويعشقها، وليس كما يحاول كاتسمان أن يصوره وهو يراسل يوري فيقول: "بدأ كل شيء في قلقيليا. دمرنا المدينة خلال يوم واحد، واصلنا القصف حتى بعد انهيار جميع المباني" ـ (ص280). ثم لا يصف إحساسه، وهو يقذف بالقذائف من دبابته، ويدمر، فيشعر بالغضب "حتى رسالة كهذه لا تنجو من التلوث" ـ (ص280).، لكنه يتابع: "توقف إطلاق النار مع حلول الظلام، وبدأ الأهالي بمغادرة المدنية. عدة آلاف من الناس. يحملون ما تمكنوا من حمله، يضعونه فوق حميرهم، أو على ظهورهم) ـ (ص280). السكان الفلسطينيون يولون الأدبار، للنجاة بالنفس، تاركين الضعفاء ليلاقوا مصيرهم، فقد "ترك العجائز والجرحى للموت. وجدت طفلا مريضا جدا نسوه في عجلة رحيلهم، فطاردت القافلة بسيارة الجيب وعثرت على أبوية" ـ (ص281). إن الفلسطيني هنا أناني وجبان، وعلى استعداد لترك طفله المريض عرضة للموت من أجل النجاة بنفسه.
هل يهدف كاتسمان بحديثه هذا، إلى براءة الذمة أمام يوري، أم يحاول غروسمان الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، وتنقية جيشه المحتل من دم الفلسطيني الأعزل؟ إن الكاتب يورد على لسان كاتسمان، أفعالا للجيش الوحشي لا توجد إلا في خياله، فكاتسمان ورفاقه يحاولون جاهدين منع السكان من المغادرة "صارخا في الناس بالعربية أن لا فائدة من الضياع في مخيم آخر للاجئين، وبأنهم لن يتعرضوا للأذى إذا بقوا في ديارهم. نظر الناس إلى الضباط بعيون مطفأة. كانت وجوهم بلا تعبير، ولا حتى الكراهية، وهم يترنحون إلى الأمام" ـ (ص281).
إن في هذا ما يثبت أن الكاتب يحلم أو يتمنى لو أن الاحتلال كان شاعريا، لكن الواقع أقسى بكثير، حيث تم تدمير قرى بكاملها، وذبح سكانها بدم بارد، لإثارة الرعب في نفوسهم، لدفعهم إلى الهجرة. والغريب أن صاحب فكرة الجسور المفتوحة ديان، له تواجد لافت في الرواية في محاورة قصيرة مع كاتسمان.
هل كان المؤلف يتمنى لو لم يتم احتلال الضفة؟ أم أن مواقفه في الرواية محاولة بائسة لتحميل الفلسطينيين وزر تحوّلهم إلى لاجئين يعانون الفقر والمرض.
سيجيب كاتسمان على سؤال ديان، لماذا استمر القصف لفترة طويلة: كان متعبا ومجهدا من الحرب "من جو الموت الذي يغلف كل شيء" ـ (ص283)، وقد حاول بقوة خلال فترة القصف "تسكين الألم في نفسه، الألم الذي ما زال يسكنه حتى الآن" ـ (ص283).  وهو يقول لديان: "لم أعد احتمل المزيد من الحرب. من الدمار. والقتل" ـ (ص283). وعند سؤاله عن القصف العنيف والدموي، قال: "إن القصف منحني الراحة، لأنه كان عملا من أعمال الاحتجاج" ـ (ص283).
وقد برع غروسمان في تحليل الحالة النفسية لكاتسمان، الذي يقوم بعملية إسقاط، فيحول الفلسطيني إلى عدوه ـ النازي- الذي أذاقه الألم والعذاب، ويوجه الناجي من المحرقة كل حقده وكراهيته على العالم إلى الفلسطيني. وكما يفعل المريض النفسي عندما يرتكب ذنبا، يعود يحاول القيام بما يكفر عما فعله، ولكنه يرجع من جديد لارتكاب الإثم بحق الآخرين، وبحق نفسه أيضا، وهو يقول في رسالته: "أردت أن أتحسس ـ بحث عن الكلمة المناسبة ـ النظام لا، ليس النظام، بل أسوأ تعبيراته عن الظلم والمعاناة. المعاناة التي ألحقتها أنا نفسي بالآخرين. أردت تعذيب نفسي"ـ (285).

تعليق عبر الفيس بوك