كيف يمكنك أن تصبح خبيرا محترفا؟

أ.د. أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج


في سبتمبر 2013، التقيتُ عالمَ النفس الأمريكي ومن أصلٍ سويدي أندرس إريكسون- أستاذ علم النفس في جامعة ولاية فلوريدا - في مؤتمر عُقِد بمدينة أنطاليا جنوب تركيا، بعد أن ألقى ورقة بحثيّة مميزة حول أسرار الأداء الخبير أو الرفيع المستوى. وقد أثارتني أفكاره التي بدت وكأنها تسير عكس التيار، فقد ألقى ورقته في مؤتمر كان يعجّ بالحديث عن اختبارات الذكاء وقدرتها التنبؤية بالأداء الإنساني الاستثنائي.
وبعد انتهاء اليوم للمؤتمر الأول رافقته في رحلة إلى متحف أنطاليا، ثم إلى مدينة برقة الأثرية، وفي الحافلة كانت فرصتي لأتعرف على المزيد حول رحلته البحثية التي امتدت لأكثر من 30 عاما حول ما يعرف اصطلاحًا بـ(الأداء الخبير).
في طفولته، كان أندرس إريكسون يلعب الشطرنج مع أحد زملائه، وهذا الصبي كان أضعف في مهارات ممارسة اللعبة بكثير من إريكسون الذي كان دائما ما يفوز عليه، وفي أحد الأيام فاز عليه الصبي.
أراد إريكسون أن يعرف ما الذي فعله هذا الصبي لتحسين أدائه بهذا الشكل الملفت؟ وبالرغم من أن إريكسون لم يدرك ذلك حينها، فإن السؤال ظل يلحُّ عليه لسنوات طويلة. ولم يجد إريكسون نفسه مهتما بقدر كبير بتحسين مستواه في الشطرنج، بقدر رغبته في البحث عن إجابة للسؤال الملحّ حيث انصرف لدراسة علم النفس ليجد نفسه أكثر شغفا بمعرفة الأسباب الكامنة وراء (الأداء الخبير رفيع المستوى) في أي مجال.
وفي عام 2016، أصدر إريكسون كتابا بعنوان PEAK (القمة: أسرار من العلوم الجديدة للخبرة)، قدَّم فيه إريكسون بأسلوب شيق وسهل خلاصة ثلاثة عقود من البحث الأصيل، ونهجا قويا ومختلفا لفهم كيفية اكتساب الخبرة والمهارة، وأسرار الأداء رفيع المستوى للأبطال والمبدعين في مختلف المجالات. وقد حظيت نتائج إريكسون بالثناء والنقاش على نطاق واسع، ولكن لم يتم شرحها بشكل صحيح.
وفْقَ أبحاث إريكسون، فإن السبب الأساسي، وربما الوحيد، لعدم كونك عازف كمان، أو رياضي أولمبي، أو فنانا عالميا، هو أنك لم تنغمس كليةً في ممارسة ممتدة أطلق عليها إريكسون "الممارسة المتعمَّدة".
و"الممارسة المتعمَّدة" هي تلك التي تنطوي على تدريب مضني "خارج منطقة الراحة"، وتجريب أنشطة تتجاوز قدراتك الحالية. يرى إريكسون أن تكرار ممارسة المهارات التي تتقنها بالفعل لن تساعد على تطوير الأداء أو الوصول إلى الأداء الخبير. كما أن مجرد الرغبة في التحسن ليس كافيا لتحقيق ذلك؛ فأنت، بالإضافة لذلك، بحاجة إلى أهداف محددة جيدا، ومساعدة من مدرب أو موجه يرشدك ويضع لك خطة لتحقيقها. في البداية، يقدم المدرب توجيهات على أدائك، ثم يضع لك خطة للتدريب، وفي النهاية، يمكنك اكتشاف المشكلات في الأداء الخاص بك، والعمل على تطويره وفق ذلك. هذا مع أنه يرى أن هناك في كل مجال قلة قليلة من الأفراد الرواد الذين استطاعوا أن يطوروا بأنفسهم مستويات متميزة دون أن يكتسبوا ذلك من موجه أو مدرب.
 شكلت أبحاث إريكسون المتميزة عن الممارسة المتعمّدة الأساس لـلقاعدة المشهورة التي سميت قاعدة الـ (10.000 ساعة)، التي ظهرت في كتاب مالكولم غلادويل: الاستثنائيون: اقضِ حوالي 10,000 ساعة من الممارسة، وستصبح خبيرًا. الكتاب الذي احتلّ المركز الأول في قائمة أفضل المبيعات لنيويورك تايمز وظل على القمة لأحد عشر أسبوعًا متتاليًا.
لكن رغم ذلك يقول إريكسون أن غلادويل أساء تفسير أبحاثه، فتكرار النشاط نفسه مرارا وتكرارا لا يكفي لجعل شخص ما يحتل القمة في مجاله. لقد استخلص غلادويل استنتاجاته من بحث نشره إريكسون وزملاؤه في عام 1993، تناول أربعين عازف كمان في ألمانيا، ركَّزوا فيه على العوامل التي ميزت أفضل الموسيقيين عن غيرهم من ذوي الأداء الجيد أو المتوسط. ووجد إريكسون ورفاقه أن عازفي الكمان الأكثر تميزا كانوا يمضون ساعات أكثر بكثير من الآخرين. كما درس الباحثون عازفي البيانو وخلصوا إلى استنتاجات مماثلة. في المتوسط - كان أفضل عازفي الكمان يقضون ما مجموعه 10.000 ساعة في ممارسة مهنتهم. وبعضهم مارس العزف أكثر من ذلك بكثير.
وفيما يتعلق بالاختلافات الجينية - في القدرة المعرفية أو البدنية – وهل تمثل هذه الاختلافات سببا للإنجاز، فإن إريكسون متشكك في ذلك. وقال إن الطول وحجم الجسم، هما السمات الوحيدة المحددة سلفا وراثيا والتي لا يمكن تغييرها كثيرا من خلال الممارسة والتي لها تأثير دال على الأداء. حتى الذكاء، يقول إريكسون إنه لا يرتبط مباشرة بأداء الخبراء. ويستشهد في كتابه PEAK بدراسة أجراها باحثون بريطانيون، وجدوا أن الذكاء يتنبأ بالفعل بمهارات الشطرنج بين الأطفال. ولكن عندما بدأ هؤلاء الباحثون النظر فقط إلى لاعبي النخبة في الشطرنج، وجدوا العكس تماما.  يقول إريكسون: "لقد قضيت الآن 30 عاما في محاولة للبحث عن نوع من القيود التي من شأنها أن تعوق بالفعل الأفراد من النجاح في بعض المجالات". لكنني فوجئت أنني لم أجد مثل هذه الحدود أو المحددات.
وأثارت نتائج دراسات إريكسون حول (الممارسة المتعمَّدة) موجة عالية من النقاش في العديد من المجالات على الساحة العلمية والثقافية وفي الصحف والبرامج، وخضعت إلى تدقيق مكثف من قبل علماء النفس. ويرى البعض أن (الممارسة المتعمّدة) تمثل بالفعل بعض الاختلافات بين الأكثر والأقل مهارة في مجال ما، لكنها لا يمكن أن تفسر كل الاختلافات. لا يستطع الباحثون أن يقولوا على وجه اليقين ما العوامل الأخرى المهمة، ولكنهم يقولون على سبيل المثال في المجال الرياضي، إن بعض الصفات الجسدية المتأثرة وراثيا مثل مدى سهولة بناء كتلة العضلات، وحتى السمات النفسية مثل الثقة، تلعب دورا مهما. وفي عام 2014 قام الباحثون بتحليل ست دراسات في مجال الشطرنج وثماني دراسات للموسيقيين ووجدوا أن الممارسة المتعمدة ليست التفسير الوحيد للأداء العالي في أي من المجالين. وأن هناك عوامل أخرى، مثل الذكاء، قد تكون أيضا سببا في ذلك. وفي ردٍّ على الورقة البحثية المنشورة عام 2016، نشرت في المجلة نفسها، كَتَبَ إريكسون أن هذه الاستنتاجات غير دقيقة، وذلك أساسا لأنها تخلط مجموع ساعات الممارسة المتراكمة مع ساعات الممارسة المتعمَّدة.
ينبّه إريكسون إلى أن الأشخاص الذين يعتقدون "أن الممارسة يمكن أن تصل بهم إلى الأداء المتميز لا يتحدثون عن النوع نفسه من الممارسة الذي يقصده. فهو يرى أن الكثير من أنشطة الممارسة غير فعالة تماما ولا تؤدي إلى أي تحسُّن. فما لم تكن الممارسة مجدولة، وهادفة، تم تعيينها من قبل مدرب خبير لمساعدتك على التحسن في منطقة معينة من الأداء، وخارج نطاق الراحة المألوفة، فإنك لا تكون مندمجا في ما يسميه الممارسة المتعمَّدة. والآن، قد يتساءل البعض ما تعنيه هذه النتائج بالنسبة له في مجاله عمله. هل مثلا يمكن أن أصبح يوما روائيا مثل نجيب محفوظ، أو عالما مثل أحمد زويل في الكيمياء إذا توافرت لي الممارسة المتعمَّدة؟
استنادا إلى بحوث إريكسون، فإن ذلك قد يتطلب الالتزام بمعايير الممارسة الصارمة لوقت قد يستغرق العمر بأكمله، و قد لا تكون الحياة كافية لتحقيق مستوى المبدعين الكبار، - ولكن نعم، سيكون ذلك من الناحية النظرية أمرا ممكنا.
اعترض بعض الباحثين على هذا الاستنتاج وقالوا إن الممارسة مهمة، إن لم تكن ضرورية، لتطوير الخبرات في أي مجال، إلا أن الاعتقاد بأن أي شخص يمكنه الإنجاز بلا حدود في أي مجال قد يكون له تأثير سلبي، فقد يكون ذلك مضيعة للوقت بالنسبة للبعض؛ فقد يبدأ البعض التدريب في مجال ما، وينتهي بهم المطاف إلى عدم تحقيق إنجاز متميز، في الوقت الذي كان باستطاعتهم استثمار طاقاتهم ووقتهم في العمل في مجال يناسبهم أكثر.
لكن إريكسون يعود ليؤكد أنه لكي تصبح خبيرا أو ذا أداء رفيع المستوى، فقد تحتاج إلى أن تكون على استعداد للتضحية على المدى القصير بالراحة والاستمتاع بالحياة قبل أن تصل إلى تلك الراحة على المدى البعيد. فسوف يكون عليك القيام بمهام شاقة لا تكتسب بشكل طبيعي  بسهولة وقد لا تكون ممتعة. فالممارسة الحقة تنطوي على الكثير من الفشل قبل الوصول إلى الأداء الرفيع.  لذا قد يبدو أن الأداء الخبير له جانب مظلم أو سلبي بعض الشيء. كما سبق القول، قد يحتاج المرء إلى أن يكرِّس نفسه كلية  لمجال محدد، وهذا قد يكون السبب في أنه من الصعب أن تجد فردا خبيرا على المستوى العالمي في أكثر من مجال.
فلكي تصبح خبيرا في أي شيء فإن ذلك يتطلب تركيزًا كاملا في ذلك المجال إذا كنت تريد أن تصبح الأفضل في هذا المجال، الأمر الذي قد لا يناسب غالبية الأفراد. وهذا يعني أنه ليس هناك أي خطأ في كونه المرء متوسطا. في الواقع، العمل نحو الخبرة في أي مجال يمكن أن يكون منهكا، وكثيرا ما يكون نوعًا من التعهد غير الممتع أو غير المُرضِي للكثيرين.
وأخيرا يستوجب ما سبق الإشارة إلى عدة ملاحظات أكثر أهمية:
 أولا - إن الخبرة هي الإتقان عالي المستوى للمعرفة الإجرائية الصريحة والضِمنيّة لمجال ما. ويقدر الباحثون عدد وحدات المعرفة الصريحة الأساسية للخبراء بنحو مائة ألف وحدة أو أكثر من المعلومات والمهارات المعرفية الإبداعية والمتقاربة. قد يستغرق بناء الأداء الخبير نحو عشر سنوات من العمل الجاد أو 10.000 ساعة من التدريب الهادف والمدروس (وهو ما يعرف بقاعدة العشرة آلاف ساعة). وحال اكتساب هذه المعرفة، يستطيع الخبير حل المشكلات ووضع تصاميم جديدة بطلاقة، وسهولة، وثقة.
ثانيا- يفترض الباحثون أن الخبرة لا تعتمد بشكل أساسي على القدرة العقلية قدر اعتمادها على (الممارسة المتعمَّدة) خارج نطاق منطقة الراحة. ولهذا فإن نصيحة الخبراء للمبتدئين هي: الممارسة، ثم الممارسة، ثم الممارسة (الهادفة والمدروسة)؛ فقد يقوم لاعب مثلا بالتدريب لسنوات بالطريقة نفسها، معتقدا أن الممارسة في نهاية المطاف سوف تحسن من أدائه أو تصل به إلى الكمال. لكن للأسف مثل هذا اللاعب ليس من المحتمل أن تطرأ تحسينات جوهرية على أدائه رغم كل تلك "الممارسة"، فهو يكرر الخبرة نفسها سنوات عديدة دون أن يضيف إليها شيئا.
ثالثا- إن نقل المعرفة هي مجرد تكرار للتعلّم المعتمِد على الذاكرة. أمّا الاحتفاظ الطلق والعملي بالمعرفة المنظمة عقليًا بصورة جيدة وقابلة للاسترجاع بسهولة، فيعدّ قدرة أساسية للخبير، ومكوّنًاً أساسياً للأداء الرفيع. إن القاعدة المعرفية المنظمة جيدًا ضرورية في جميع عمليات المعالجة المعرفية عالية المستوى. ولهذا، فمن المفترض أن تتميز قاعدة معلومات الخبير ليس بالاتساع فحسب، ولكن تتميز أيضًا بالتنظيم الجيد ضمن فئات وعلاقات مترابطة بطريقة تسهّل استرجاعها لتستخدم في عمليات معرفية إبداعية عالية المستوى.
وأخيرا: إن أهم المنح التي يمكن أن نعطيها لأبنائنا هي الثقة في قدرتهم على إعادة تشكيل أنفسهم مرارا وتكرارا، والأدوات التي تمكنهم من القيام بهذه المهمة. لدوزنة الدماغ البشري، إلى جانب التدريب الموجّه والممارسة، هما المفتاح للوصول إلى ذلك. ينضم إريكسون إلى عدد متزايد من المربين الذين يركّزون على أهمية ما يسميه "الممارسة المتعمَّدة" في تحقيق الخبرة في ميادين عديدة مثل الفنون والرياضة. ومن الأفضل أن تبدأ هذه الممارسة في سن مبكرة، حتى يتمكن الأطفال من صقل مهارات محددة واكتساب القدرة على إعادة تشكيل أنفسهم، مع تغير الظروف. إنها مسألة تدريب عملي، وليس مجرد استيعاب معرفة مجردة. وهو ما يتطلب الشروع في مسار واقعي لتحقيق هدف محدد من خلال تحقيق إتقان مهارات محددة أكثر صعوبة وبشكل متدرج، ينطوي على مزيج من التدريب العقلي والجسدي.
إن فكرة أن الفروق الفردية في القدرة لا تحدد وراثيا في الدماغ البشري أصبحت اليوم أكثر قبولا من ذي قبل. في السابق، كان يعتقد أن الموهبة تحدد وراثيا وأن "التعلُّم هو مجرد وسيلة لتحقيق الإمكانات الوراثية للفرد". يعطي إريكسون أمثلة مثيرة للاهتمام لكيفية تطور القشرة البصرية في الدماغ لدى الأشخاص المكفوفين الذين تعلموا لغة (برايل) والتواصل بأطراف الأصابع، وكيف أن إنجازات (موزارت)، باعتباره معجزة للأطفال، قد زرعها تدريب والده المكثف. ويؤكد إريكسون أن النجاح في عالم اليوم يتطلب التركيز على الأداء العمليّ، وليس مجرد تراكم المعلومات.

تعليق عبر الفيس بوك