من ملامح لقاء الغرب في القصة القصيرة العمانية المعاصرة (1- 3)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس


ترافق اطّلاع الإنسان العربي على مظاهر المدنية الحديثة في الغرب، منذ بدء ما يعرف باسم " عصر النهضة العربية الحديثة " ، مع لقاء بهذه المظاهر على مستوى التأليف القصصي بمختلف تجليا ته ، ابتدأه رفاعة رافع الطهطاوي سنة 1834م بكتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " وتتابعت بعده المؤلفات ، فاشتهرت منها عناوين كثيرة من قبيل : " زينب " لمحمد حسين هيكل ، و " قنديل أم هاشم " ليحيى حقي ، و " عصفور من الشرق " لتوفيق الحكيم ، و " الحي اللاتيني " لسهيل إدريس ، و " موسم الهجرة إلى  الشمال " للطيب صالح. وقد لا يكون المرء مبالغاً إن ذهب إلى أن في وسع كل قطر عربي أن يعدّ قائمة – تطول أو تقصر – بعناوين الكتابات القصصية التي كُتبت فيه متناولةً هذا الموضوع ، فهو شائع شيوعًا واضحًا في الأدب القصصي العربي الحديث والمعاصر .
إنّ هذا التركيز الواضح على هذا الموضوع ينطلق أساسًا من إدراك واضح لطبيعة الإشكالية الكبيرة التي باتت الشخصية العربية – والمسلمة عمومًا – تواجهها منذ بدء الاتصال الحديث بالغرب ، وهي الإشكالية التي عُرفت بأسماء متشابهة لعلّ أشهرها " الأصالة والمعاصرة "، ويراها الجابري " ازدواجية مفروضة علينا بسبب تدخل عامل خارجي ، وليست مسألة اختيار حّر " ( 1) . لقد تمثلت هذه الإشكالية في تذبذب الشخصية العربية بين قطبين : أحدهما يمثل مظاهر التطور والتمدن الحديثين ، والآخر يمثل الأصالة المستندة إلى التراث العربي والإسلامي . وقاد هذا التذبذب إلى ظهور مواقف ثلاثة لدى المفكرين العرب ، لا يهمنا منها هنا سوى دلالتها على عمق هذه الإشكالية وأثرها في الفكر العربي المعاصر ، فالموقفان الأول والثاني ارتبط كل منهما بالدعوة إلى قطب من قطبي الثنائية ، أما الأخير فحاول التوفيق بينهما بالدعوة إلى الأخذ بخير ما فيهما ، " وواضح أن الأمر يتعلق لا بثلاثة مواقف تفصل بينها حدود واضحة ، بل بثلاثة أصناف من المواقف يضم كل صنف منها اتجاهات متعددة تتلون في الغالب بلون الأيديولوجيات السائدة "   (2) . وبلغ من قوة أثر هذه الإشكالية أنْ لم يقتصر وجودها على المفكرين وحدهم ، فصار رجل الشارع أيضاً يلهج بمصطلحات من مثل : الهوية ، والحداثة ، وما بعد الحداثة ، والمثاقفة ، والاستلاب الحضاري ، وحوار الحضارات أو صراعها ... الخ . وكان من الطبعي ألاّ يقف الأدباء بنجوة من هذا كله ، فأسهموا فيه بنتاجاتهم الأدبية المختلفة بغية " البحث عن إمكانات تشكيل الشخصية الجديدة " ( 3 ) .
إنّ هذه الدراسة محاولة للوقوف على أبرز الملامح التي تظهر في موضوع لقاء الغرب وفق ظهوره في القصة القصيرة العمانية المعاصرة التي لم تبقَ معزولة عن كل هذا الذي كُتب في الأدب العربي المعاصر في هذا الموضوع ، بل تفاعلت معه ساعيةً إلى أن تكون لها سهمتها فيه .
وتود الدراسة أن تشير إلى أنٌ اختيارها للتعبير " لقاء " – دون غيره من التعبيرات المستعملة في هذا الصدد من قبيل : مواجهة ، أو صدام ، أو صراع ، أو حوار – جاء من منطلق الحرص على منح الموضوع درجة كافية من الاتساع تتيح له أن يتناول كل المواقف والطروحات والاتجاهات دون قسر لأي منها أو حصر في زاوية ضيقة معينة ، خلافًا لما صنعه بعض الدارسين المعاصرين حين أصرّ على استعمال كلمتي " الصراع " و " الصدام " ( 4) . إضافةً إلى أن هذه الكلمة " لقاء " لا تحمل – على عكس غيرها – ظلالاً من الدلالة على التعمد والقصد والسعي لتحقيق غاية معينة سلفاً ، فهي متناسبة أيضاً مع العفوية وعدم التعمد ، وهذه قضية تخدم أيضاً اتساع النظرة التي تطمح إليها هذه الدراسة .
لقد تنوعت تجليات لقاء الغرب في القصة القصيرة العمانية المعاصرة ، فتجلى هذا اللقاء في السفر الفعلي الجسدي إلى الغرب لأغراض أهمها الدراسة الجامعية كما في " العودة " لعلي الكلباني ( 5 ) و " العودة " لخليفة العبري ( 6 ) ، وهذا ما يظهر أيضاً_ وإن لم يصرح به _ في قصة " مؤامرة حبس النورس " ليونس الأخزمي ( 7 ) . وبعد الدراسة الجامعية ، يظهر العمل غرضًا ثانيًا من أغراض السفر إلى الدول الغربية ، مثل ذلك الذي في قصة " خلجات مترادفة " لحمد بن رشيد ( 8 ) . ومن الطريف أنّ الغرض لا يكون مذكوراً   أحياناً، كما لو لم تتعلق بذكره أية أهمية ، ومثال هذا ما في قصة " بدوي في لندن " لأحمد بن بلال ( 9 ) ، فقارئ هذه القصة لا يظفر فيها بما من شأنه أن يدله على الغرض الذي لأجله سافر البدوي و أصدقاؤه الثلاثة إلى لندن . وتجلى لقاء الغرب أيضاً في نوع آخر من السفر إليه ، يكون بالخيال . مثاله الواضح هو في قصة " الخريطة " ليونس الأخزمي ( 10 ) ، حيث يطلق حمد لخياله العنان ليحلق بحرية في فضاءات الدولة الغربية التي يتوق إلى السفر إليها هرباً من الحرارة الحارقة في شهر نيسان الربيعي.لكن تحليقه هذا يظل خيالياً فحسب ، دون أن يتجاوزه إلى التحقق العملي ، فقد أقفلت سفارة تلك الدولة أبوابها قبل أن يعود حمد إلى واقعه من رحلته الخيالية ، مضيعاً على نفسه ، غيرما مرة ، فرصة الحصول على تأشيرة السفر .
وإلى جانب التجليين المذكورين ثمة تجلّ مختلف يتمثل في انطباعات ذهنية راسخة عن الغرب من دون تحقّق سفر إليه ، لا جسدًا ولا خيالاً . برز هذا التجلي بوضوح في قصة محمد بن سيف الرحبي " الله وأمريكا " ( 11 ) ، ففيها تبرز أمريكا إلهاً يُعبد من دون الله تعالى ، ويستولي على كل شيء حتى الحروف الهجائية ، فينقطع على الناس طريق تواصلهم وتفاهمهم إلا ما كان بإذن أمريكا ، ويتحول التوكل على الله تعالى إلى جريمة يستحق المرء عليها أن يعاقب بأقسى العقوبات . ومثل هذا ما نجده في قصة " أمي ماريا " لصادق عبدواني ( 12 ) حين ينقل إلينا الزوجان سيف وسمية نظرتيهما المختلفتين إلى حياة الأسر  الأوروبية ، دون أن يكون في القصة ما يدل على سفرهما الجسدي إلى الغرب أو تهويمهما الخيالي في   آفاقه .

تعليق عبر الفيس بوك