عبد الناصر متوهجا في ذكرى عيد ميلاده (2/2)

 

عبدالنبي العكري

وانطلاقاً من هذا الدور القومي القيادي لمصر، تبنى عبد الناصر مشروع الوحدة العربية فكرا وممارسة، وهو ماجعل النظام الناصري في مواجهة مع إسرائيل والغرب وعدد من الأنظمة العربية التي تلتقي مصالحها في تشرذم العرب وألا تتجسد الأمة العربية في دولة واحدة . صحيح أيضًا أنَّ هناك من اختلف مع عبد الناصر في تصوره للوحدة أو الصيغة التي تمت بها أول دولة للوحدة بين مصر وسوريا ممثلة في الجمهورية العربية المتحدة ومشاريع وحدوية أخرى. رغم ذلك فإنَّ عبد الناصر قاد عملية أول وحدة عربية بين مصر وسوريا بعد قرون من التشرذم ونقضا لاتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية التي رسمت حدود التجزئة في الوطن العربي. لكن دولة الوحدة لم تستمر سوى ثلاث سنوات من 8 فبراير 1958 حتى 28 سبتمبر 1961 وانتهت بعملية انقلاب انفصالية كتتويج للتآمر الداخلي والخارجي. ورغم مشروعية استخدام عبد الناصر للقوة لإحباط الحركة الانفصالية،إلا أنه أمر القوات المرسلة من مصر إلى سوريا بعدم القتال حتى لاترتبط الوحدة بإراقة الدماء العربية في حرب أهلية.

لكن فشل أول تجربة للوحدة لم يزعزع إيمان عبد الناصر بالوحدة ولكنه جعلها أكثر نضجاً وحذرا وواقعية في صيغة أي وحدة تكون مصر طرفًا فيها. ويتضح ذلك في مفاوضات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق بعد استيلاء البعث على السلطة في البلدين والتي لم تتوج بالنجاح. كما كان موقفه متحفظًا تجاه إصرار الزعيم الليبي معمر القذافي على وحدة اندماجية بين مصر وليبيا .أما الصيغة التي استجاب لها عبد الناصر تحت الإلحاح فهي صيغة التقارب ممثلة في اتحاد الجمهوريات العربية .

رابعا: رغم أن مصر عبد الناصر دخلت في نزاعات وصراعات مع أكثر من نظام عربي بما في ذلك الحرب على الساحة اليمنية، إلا أن عبد الناصر وبعد هزيمة 5 يونيو 1967 عمل على إنهاء هذه الصراعات لضرورة توحيد الجهود العربية وتأمين جبهة عربية تدعم مصر وسوريا لتحرير أراضيهما المحتلة من قبل إسرائيل وتدعم الثورة الفلسطينية في كفاحها لتحرير فلسطين ودعم صمود الأردن. وهنا نتذكر الموقف التاريخي لعبد الناصر والملك فيصل الخصمين اللدودين في المصالحة التاريخية في قمة الخرطوم التي أعلنت اللاآت الثلاثة في مواجهة إسرائيل وأمريكا، لا للاحتلال،لا للاستسلام،لا لفرض الأمر الواقع وتوصل الزعيمان إلى تسوية للأزمة اليمنية سمحت بعودة القوات المصرية في اليمن إلى مصر لتعزز بناء القوات المسلحة المعدة للتحرير. قاد عبد الناصر عملية إعادة بناء القوات المسلحة المصرية ونسق جيدا مع سوريا وأمن الجبهة العربية المساندة خلفه وكذلك غالبية دول العالم .ورغم أنه لم يعش ليشهد حرب التحرير والنصر، إلا أنه يقف خلف حرب أكتوبر المجيدة رغم مانعرف من ثغراتها وكان الأمر سيختلف لو كان يقودها.

خامسا: انطلق عبد الناصر في سياسته الخارجية من إيمانه بالوطنية المصرية والقومية العربية والإسلام السمح وحدد دور وانتماء مصر في كتابه فلسفة الثورة في تتابع الدوائر الثلاث وهي العربية والأفريقية والإسلامية. لكنه وفي مرحلة لاحقة بنى عليها العلاقات الوثيقة مع الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي وإقامة منظومة عدم الانحياز وإقامة منظمة الوحدة الأفريقية . بالطبع فإنَّ مثل هذه الرؤية والإستراتيجية، لم تتشكل بضربة واحدة بل صيغت وبنيت من خلال التجربة العملية والتطورات في الفكر الناصري ومتطلبات لعب مصر لدورها القيادي وتأمين الاستقلال والمصلحة العليا لمصر وللعرب ونصره القضايا العادلة في العالم في ظل حروب ومؤامرات ضد مصر وضد الأمة العربية وضد الأنظمة التحررية في القارات الثلاث.

في السنوات الأولى من ثورة يوليو، لم يكن عبد الناصر معادياً للغرب بما فيه أمريكا بل إنه قدر عاليا دور آيزنهاور ضد العدوان الثلاثي في 1956، وجرى تقارب مع الرئيس كينيدي، لكن السياسة الأمريكية والغربية بإقامة حلف بغداد ومشروع الشرق الأوسط وسحب تمويل البنك الدولي لمشروع السد العالي ورفض الغرب تسليح مصر بعد عدوان 1956، أحدث تحولات في موقف عبد الناصر تجاه المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي بعد صفقة الأسلحة التشيكية بحيث أضحى صديقًا يعتمد عليه في دعم مشروع مصر الناصرية والوقوف معها في الملمات، كما في العدوان الثلاثي في 1956حرب يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973 وكذلك في عملية تصنيع وبناء وتحديث مصر ورمز ذلك السد العالي ومصانع الصلب والحديد بحلوان ودعم مصر على كل الصعد عسكريا واقتصاديا وسياسيا ودعم القضايا العربية التي تتبناها مصر أيضا.

ويشترك عبد الناصر مع قادة عدد من الدول في القارات الثلاث التي نالت استقلالها من الاستعمار في تبني سياسة عدم الانحياز لأيٍّ من المعسكرين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة أمريكا. وهكذا كان عبد الناصر إلى جانب نهرو وشوان لاي وتيتو ونكروما وكاسترو في تأسيس حركة عدم الانحياز في باندونج والتي شكلت منظومة مهمة على خارطة العالم وإطارًا للدعم المتبادل ودعم الشعوب المناضلة في القارات الثلاث . ويسجل هنا دعم الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، رغم التباينات السياسية، لكتلة عدم الانحياز والتي تطورت إلى الحياد الإيجابي.

كذلك فقد أولى عبد الناصر أهمية لدور مصر القيادي في أفريقيا وكان من مؤسسي منظمة الوحدة الأفريقية وثاني رئيس لها وداعمًا لنضالات الشعوب الأفريقية من أجل التحرر من الاستعمار ثم في عملية البناء في مرحلة مابعد الاستقلال وحل الخلافات سواء داخل بلدان أفريقية أو فيما بينها وهو ما تطلب إمكانيات كبيرة من مصر لكنه عزز دورها القيادي في القارة السمراء.

بالنسبة للعالم الإسلامي والذي كان يعاني من تركة الاستعمار وإرث الصراعات التاريخية والانقسامات المذهبية، فإلى جانب توثيق العلاقات مع الشعوب الإسلامية ودولها، فقد اهتم عبد الناصر بدور الأزهر والمؤسسة الدينية المصرية حيث جرى تحديث جامعة الأزهر لتستوعب كافة العلوم وتوسعها لتفتح فروعا في المحافظات المصرية وبلدان إسلامية والأهم استيعاب عشرات الآلاف من الطلبة العرب والمسلمين على نفقة مصر. وتمثل التحول التاريخي في اعتماد مؤسسة الأزهر للمذاهب الإسلامية الأخرى مثل الشيعي والزيدي والموحدون وتدريسها إلى جانب المذاهب الأربعة. كما احتضنت القاهرة حوار التقريب بين المذاهب الإسلامية والذي أحدث تقاربا مهما في فهم أفضل لجوهر الإسلام ورسالته السمحة.

نستطيع الاستطراد كثيرًا في إنجازات عبد الناصر خلال سنوات تسنمه المسؤولية لثمانية عشر عامًا في ظل إرث تاريخي ثقيل وتركة استعمارية وحروبا ومؤامرات لم تتوقف من قبل التحالف الصهيوني الأمريكي وضغائن من الأشقاء، فضلا عن فساد وعدم كفاءة العديد من القريبين منه في القيادة. وعلى الصعيد الشخصي فقد كان مصابا بداء السكري وتصلب الشرايين والذي تمكن منه في ظل إجهاد متواصل للنفس وأزمات وكوارث متلاحقة استنزفته حتى توفي في 28 سبتمبر 1970 وهو يعمل على إطفاء حرب أيلول الدامية ما بين النظام الأردني والثورة الفلسطينية خلال القمة الطارئة في القاهرة حيث دفع حياته لإيقاف نزيف الدم العربي.

في خضم هذه الحياة العاصفة، تزوج عبد الناصر السيدة الفاضلة تحية كاظم وكون أسرة سعيدة ولهما من الأبناء والبنات هدى وخالد ومنى وعبد الحكيم وعبد الحميد، وكلهم تعلموا في المدارس والجامعات المصرية دون امتيازات وإلى جانب باقي أبناء الشعب ولم يتسلم أي منهم منصباً أو يحظى بامتياز في الدولة واختاروا مستقبلهم المهني والعائلي بأنفسهم .عبد الناصر وعائلته عاشوا في بيت متواضع في منشية البكري بمصر الجديدة وفره له مجلس قيادة الثورة وظل فيه حتى وفاته وأضحى الآن متحفاً لعبد الناصر توفي عبد الناصر ولم يخلف أي ثروة بل مجرد بضعة مئات من الجنيهات في حساب بريدي وشهادات تأمين.

توفي عبد الناصر وهو يحاول إطفاء فتنة الاقتتال ما بين الإخوه الأردنيين والفلسطينيين في حين لازالت الأرض المصرية في سيناء محتلة من قبل إسرائيل ووضع مصر حرج صعب ومعاناة الشعب المصري المادية والمعنوية شديدة جدا والوضع العربي رغم التضامن الرسمي ليس متينا. لكن الشعب المصري الذي أجبر عبد الناصر على العودة عن استقالته إثر هزيمة 5 يونيو 1967، كان مؤمنا بإخلاص وقدرة عبد الناصر على كنس الهزيمة والنهوض مرة أخرى وكذلك الأمر بالنسبة للشعوب العربية وأصدقاء العرب. ولذا كانت فجيعتهم بموته المفاجئ كبيرة جدا. ومن هنا نفهم حالة الصدمة وعدم التصديق في البداية ثم النزول إلى شوارع القاهرة بالملايين لتشييعه في سابقة تاريخية .كذلك الأمر بإقامة جنازة رمزية وتأبينه في العديد من بلدان العرب والعالم.

ويبقى إرث عبد الناصر والمبادئ التي ناضل من أجلها والإنجازات التي أسهم فيها حية لدى الأجيال المتعاقبة، ويتوجب استيعاب دروسها والتمعن أيضا في قصورها وأخطائها حيث إن الوفاء لعبد الناصر وما مثل هو في التقييم والنقد الموضوعي لتجربته والتي هي تجربة أجيال عربية متعاقبة.

كاتب وحقوقي من البحرين