مناجم الذهب (5)

عائشة البلوشية

وصل إلى الدمام وعيونه البريئة تتصفح تلك البلاد، يا لها من إطلالة مختلفة عن العراقي، بها منازل حديثة وطرق معبدة ومركبات تجوب تلك الطرقات، وعندما زار الأحساء لأول مرة شاهد بها نخيلا لكنها ليست كالنخيل، بها جمال ولكنه ليس كذياك الجمال، جمال جديد لكنه لم يكن بتلك القوة كي يوثقه للبقاء والسكن في هذه البلاد حتى نهاية العمر، انتقل للسكن مع والدته في دار جديدة اكتراها والده في الدمام لينعموا بنوع من الخصوصية، ثم بدأ الجميع التحضير للسفر ﻷداء فريضة الحج، فارتحلوا إلى الرياض ومنها إلى مكة المكرمة، وهنا كانت المفاجأة الجديدة له؛ حيث كان السفر بـ"الريل" القطار البخاري من الدمام إلى الرياض، يا لها من تجربة ثرية جديدة لطفل في مثل سنه، عربات كالعقد تجر بعضها بعضا، تجري على قضبان موثقة في الأرض، ودخان كثيف ينطلق من الريل لينتشر في الأجواء ويتلاشى بسرعة، وفيما يشبه (الفلاش باك) تذكر العير التي قدموا فيها من عُمان، وأن الإبل كانت تتبع بعضها تماما كعربات الريل، وسؤال في داخله: "ما هذا العالم الجديد الذي بدأت التعمق في مفرداته؟"، سيارات ولنج (مركب) وكهرباء وبرقية وريل، كم هو جميل هذا التمدن، ورغبة دفينة هي حلم بدأت نواته في التشكل في مهجة طفل تقول كم أتمنى أن أرى كل هذا في بلادي، ليت صحبي الصغار يرون ما أراه في هذه الرحلة، ليتني أستطيع أن أرى هذا كله في العراقي.

وصلوا إلى الرياض ليلتقوا بعضَ الأهل الذين وَفِدوا من عبري ﻷداء فريضة الحج، وهناك استقلوا (الوانيتات) سيارات النقل، ولمن لا يعرف فإن تسمية سيارة النقل بالوانيت جاءت من الرقمين المنطوقين باللغة الإنجليزية one eight، فدرجت في اللهجات المحلية ليسري عليها اسم الوانيت، وصل الجميع إلى مكة المكرمة، ليشاهد طفلنا الصغير جمالا باهرا، جمال يتخطى حدود الإبصار، الكعبة المشرفة وحولها صحن يدور فيه الناس يلبسون لباس الإحرام الأبيض، كان الزحام شديدا -لكنه لا يقاس بعصرنا هذا- ومع براءة طفولته وصغر حجمه كان ينظر حوله إلى وفود الحجيج، رافعين أصواتهم بالتلبية، فما كان من والدته إلا أن تشير إلى الشاب "بطي" بحمله على كتفيه، خوفا عليه من الدهس أو الضياع وسط تلك الجموع، تجربة فريدة يطوف حول الكعبة محمولا، شاهد ذلك المنظر الذي كان مختلفا تماما من هذا البعد، كان المشهد أروع وأشمل، فالناظر للأشياء من الأسفل يراها تختلف تماما عندما ينظر إليها من علو، دخل في تلافيف روحانيات البقعة المباركة والمناسك الأخرى في الأيام التالية فارتبط قلبه بها، وظلت تلك الرحلة مخزونة في مكان خاص في روحه، رأى بشرا كثر، وتناهت إلى آذانه لغات شتى، لكنهم يقومون بنفس الطقوس، حتى انتهت أيام التشريق وقرنوها بعمرة ليغادروها ومشاعر جديدة بالحمد والشكر لله عائدين إلى الدمام.

عادوا إلى المنطقة الشرقية لتبدأ أيام جديدة من التعرف على هذه البلاد، لتأتي تجربته الأولى في مشاهدة التلفاز، وكان ذلك في "راس تنورة"، عندما حضر أحد أصدقائهم (العم صالح بن راشد) واصطحبه معه إلى حيث يعمل هناك، ليتعرف ذلك الطفل على صندوق عجيب يختلف عن المذياع والسنطور (الأسطوانة) حجما وشكلا، فهنا تظهر أشكال الأشخاص الذين يتحدثون، وأخذ بهذا الجهاز الرائع وأخذ يتفرج على البرامج والأخبار والأغاني، حتى أتى والده ليعود به إلى المنزل، فهو الأعرف بولده الذي يحب التعرف على كل شيء بنفسه، فخاف عليه من العبث بالكهرباء، فانتهت تلك الزيارة الرائعة سريعا، وقلبه قد تعلق بذلك الجهاز الرائع، فهو ليس بالجدار الأصم كالسينمه (السينما)، ولا هو بجماد تخرج منه أصوات بلا صور، بل كان يرى الأشخاص على شاشته الزجاجية.

ثم تأتي وقفته الأولى أمام المصور وآلة التصوير، ليرى نفسه على الورق للمرة الأولى في حياته، حيث كانت آلة التصوير عبارة عن صندوق خشبي يستند إلى ثلاثة أرجل حديدية، وقف خلفها رجل نادى عليه هو ورفاقه، أمرهم بالوقوف بثبات دون حديث لمدة ثلاثين ثانية، ليدخل المصور رأسه مختفيا داخل قطعة من القماش الأسود، ثم أعلن لهم بأنه قد أنهى مهمته، ويمكن الآن للمجموعة التالية أن تقف ليلتقط لهم الصور المطلوبة، وبعد ثلاثة أيام تم تسليم الصور، ففرح بصورته أيما فرح، فقد شاهد نفسه في المرآة مرارا، لكن صورته تختفي بمجرد الحركة والاختفاء من أمامها، أما هذه الصورة توثق حدثا معينا وتظل مطبوعة على الورق على مر الزمن، كان سروره يمتزج بأمنية أن يحصل على مثل هذه الآلة، وأن يلتقط صورا لكل بقعة في عبري الجميلة في يوم ما؛ وتمضي الأيام ليدخل طفلنا هذا إلى المدرسة النظامية مع أبناء أخواله (عبدالله وسلطان) وابن خالته (هلال)، كانت أياما جميلة جدا وهو يستيقظ كل صباح ويتوجه إلى ذلك المبنى ليتلقى العلم، كان يتفكر ويسافر بخياله في تواتر هذا المسلسل من الجمال العصري من سيارات وكهرباء وريل وبرقية وسينما وتلفاز، وينهش الشوق قلبه إلى ذلك المنزل الطيني وتلك الضواحي الخضراء ورغبته في استكمال جمالها الطبيعي بهذا التطور، وأن يوثق كل ذلك بكاميرا يحملها وتصبح رفيقة سفره أينما حل وارتحل، ثم تأتي البُشرى بعدها بفترة بسيطة بوضع والدته لمولود جديد أسموه خالدا، فرح به جدا فهو يرى أترابه حوله مع إخوتهم وأخواتهم، وهو الوحيد بينهم، لذا فقد أحس بإحساس جديد وأنه مسؤول عن هذا الأخ الصغير، كان مولودا جميلا ممتلىء الخدين؛ ويأتي ذلك اليوم الحاسم عندما بلغ أخوه سبعة أشهر من العمر، ويخبره والده عن نيته العودة إلى عمان، وأنه أمام خيارين؛ إما أن يبقى مع أبناء أخواله ليكمل دراسته، أو أن يترك كل هذا ويعود مع والديه وأخيه إلى عبري.

 (يتبع)..

--------------------------

توقيع:

"برُوحي مَنْ تَذوبُ عليهِ رُوحي،، وذُقْ يا قلبُ ما صَنَعَتْ يداكَا..

لعمري كنتَ عن هذا غنياً،، ولم تعرفْ ضلالكَ من هداكا..

ضنيتُ منَ الهوى وشقيتُ منهُ،، وأنتَ تجيبُ كلَّ هوى ًدعاكا".

((بهاء الدين زهير))