عبدالناصر متوهجا في ذكرى عيد ميلاده (1-2)

عبدالنبي العكري

حلَّت الذكرى المئوية لميلاد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في 18 يناير 1918، والأمة العربية في أسوأ أحوالها، لذا فإنه لم يجر الاحتفاء بهذه المناسبة كما يتوجَّب، ولم تحظَ باهتمام رسمي من قبل الدول العربية والقوى الفاعلة.

كان التحضير للاحتفالية محدودا، واقتصر رسميا على بلدين؛ هما: مصر وطن عبد الناصر، ولبنان وطن الحريات، وبضعة ندوات في عدد من البلدان العربية. أما التغطية الإعلامية -خصوصا في الفضائيات- فكانت محدودة جدا، واقتصرت على فضائيات ذات توجه قومي ومقالات متناثرة في بعض الصحف العربية. وعلى المستوى الدولي، فعلى حدِّ علمي اقتصرت على عدد قليل من البلدان؛ منها: روسيا وغانا وكوبا وفنزويلا؛ وذلك لا يتناسب مع التأثير الذي أحدثه عبدالناصر في وطنه مصر وفي الوطن العربي وفي إفريقيا، وعلى امتداد العالم، خصوصا بلدان كتلة عدم الانحياز.

لا شك أن إحياء الذكرى من خلال الاحتفالات وإقامة الندوات والكتابة في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات...وغيرها من قِبل أناس -القليل منهم عايش مرحلة عبدالناصر، لكنَّ غالبيتهم ولدوا بعد وفاته في 28 سبتمبر 1970- يؤكد أن الإرث الذي تركه في حياة المصريين والعرب والعالم، لا يمكن أن يُمحى رغم كل ما بُذل من أجل تشويه هذا الإرث؛ حيث لا يزال المصريون والعرب يفتقدونه، ويفتقدون فيه الزعيم القومي الذي كان يوحِّدهم في المعارك الكبرى، ويعبر عن مصالحهم القومية الجامعة.

هذا لا يعني أن كل ما عمله عبدالناصر صحيح، وأنه لم يرتكب أخطاء، خصوصا في ظل النظام السياسي المصري الذي ترتب على ثورة 23 يوليو 1952، والذي وضع في قمة السلطة ضباطا عسكريين، استمروا في قيادة الدولة التي تتطلب بالضرورة قيادات سياسية مدنية، ووجود مؤسسات  منتخبة وسلطات تراقب وتوازن بعضها البعض. كان عبدالناصر في موقع القائد الأول؛ مما جعله في موقع اتخاذ القرارات بمشاركة وموافقة عدد محدود في قمة السلطة؛ سواء من رفاقه الضباط الأحرار حتى حل مجلس قيادة الثورة، ثم قيادات الدولة في المرحلة التالية حتى وفاته.

لا شك أن المرحلة التي تشكَّلت فيها شخصية عبدالناصر منذ ولادته في الإسكندرية في 9 يناير 1918، وعيشه في عدد من المدن المصرية آخرها القاهرة بفعل تنقل والده مفتش البريد، هي مرحلة عاصفة سواء المقاومة المصرية لاستلاب السيادة المصرية من خلال الاحتلال البريطاني والهيمنة البريطانيى على شؤون مصر وسيطرتها على أهم مرفأ مصري وممر ملاحي دولي "قناة السويس"، بمشاركة أو خضوع من قبل النظام الملكي والطبقة الحاكمة، في ظل أوضاع استغلال وتخلف وقمع للشعب المصري. وعلى المستوى العربي، عايش عبدالناصر الغزو الصهيوني لفلسطين بتواطؤ من بريطانيا والغرب عموما، وسط عجز عربي، وخضوع العديد من البلدان العربية للاستعمار الفرنسي والبريطاني المباشر، أو كونها واقعة ضمن النفوذ الغربي وأدوات خدمته.

سيرة عبدالناصر تكشف عن وعي مبكر ومشاركة سياسية أثناء المرحلة الطلابية لما يُعانيه الشعب المصري. وفي ظلِّ فساد معظم الأحزاب، فقد رأى في الجيش وسيلة الخلاص من النظام الملكي، ثم التخلص من الأحزاب الفاسدة. وكانت أول مهمة له في الجيش ضمن القوة التي أرسلت لمواجهة الصهاينة في فلسطين في ظل أوضاع مختلة. وهكذا قُدِّر لعبدالناصر وبعض شركائه من الضباط الأحرار أن يعيشوا حصارَ الفالوجة وهزيمة لم تكن من صنعهم، وهناك تبلورت فكرة الانقلاب على النظام الملكي لتغيير الوضع كليا في مصر، ومن بعد ذلك مواجهة إسرائيل وحلفائها من الدول الاستعمارية.

مسيرة عبدالناصر خلال 18 عاما في السلطة منذ قيام الثورة في 23 يوليو 1952 وحتى وفاته في 28 سبتمبر 1970، هي فترة عاصفة في حياة مصر والعرب والعالم، فترة التحول من سيطرة وهيمنة الغرب مباشرة أو من خلال عملائه ووكلائه -أنظمة وشركات ومؤسسات وشبكات مصالح- إلى مرحلة تصفية الاستعمار، والنضال من أجل الاستقلال والبناء الوطني، والتكتل ضمن منظومات مثل كتلة دول عدم الانحياز ومنظمة الوحدة  الإفريقية...وغيرها. خاض عبدالناصر صراعات داخل مصر، وخاض معارك بل حروبا مع أعداء مصر والأمة العربية خصوصا إسرائيل، والدول الاستعمارية الغربية خصوصا أمريكا وبريطانيا وفرنسا وحلفائهم الإقليميين تركيا وإيران والأنظمة العربية الموالية للغرب، ودعم كفاح الشعوب العربية من أجل التحرير خصوصا في فلسطين والجزائر واليمن، والتخلص من الأنظمة الاستبدادية المتحالفة مع الغرب.

كما دعم نضال الشعوب الإفريقية ضد الاستعمار، كما في جنوب إفريقبا وغانا وغينيا...وغيرها. ومع نيل هذه الشعوب لاستقالاتها، دعمت "مصر عبدالناصر" هذه البلدان لبناء ذاتها من خلال الخبراء والمشاريع، في حين استقبلت مصر أجيالا من الطلاب وعلى نفقتها وفي جميع التخصصات. كانت مصر ملجأ المناضلين من أجل الحرية والهاربين من القمع من مختلف بلدان العالم. ونتذكر هنا البعثات التعليمية المصرية والكوادر المصرية في أكثر من بلد عربي وإفريقي.

وهناك مهام أخرى تصدى لها عبدالناصر؛ أبرزها:

- تحديث مصر وإقامة نظام وطني يوفر الاستقلال الحقيقي والسيادة والكرامة والعدالة للشعب المصري، ومن ذلك جلاء قوات الاحتلال البريطاني، وإنهاء حتلال بريطانيا وتأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وإسترتيجية التصنيع وتحديث وتوسيع الزراعة، بما تطلبه من إصلاح زراعي وتأميمات، وتمكين الفلاحين والعمال، ومجانية التعليم والتطبيب، ومشاريع الإسكان والمواصلات وخطط التنمية الطموحة الشاملة، كما أضحت مصر الأبرز عربيا في العلوم والتعليم والثقافة والفنون جميعا.

- النضال من أجل تحرير فلسطين، ومن أجلها تعرضت مصر لحربين عدوانيتين في 1956 و1967، وخاضت مع سوريا حرب أكتوبر 1973 المجيدة، وحربا في اليمن دفاعا عن الثورة اليمنية. والأهم هو أن عبدالناصر دعم بقوة منظمة التحرير الفلسطينية لتقود الشعب الفلسطيني في كفاحه لتحرير فلسطين. وبعد انطلاقة الثورة الفلسطينية في 1 يناير 1965 والتي وصفها بأنها "أنبل ظاهرة في تاريخ العرب"، فقد دعمها بدون تدخل أو إملاءات. وعندما تفجر الصراع مع الثورة الفلسطينية في الأردن، عمل عبدالناصر على حماية الثورة الفلسطينية بتسويات مع كل من لبنان والأردن؛ حيث تطلب الاتفاق الفلسطين الأردني قمة عربية طارئة في سبتمبر 1970، وجهودا استثنائية من عبدالناصر انتهت بموته نتيجة مضاعفات هذا الجهد.

- أحدث عبدالناصر نقلة في الفكر السياسي المصري والرأي العام المصري، وسياسة الدولة المصرية؛ حيث كان الاعتقاد السائد بالقومية المصرية، ولم يكن سائدا الفكر القومي وحقيقة الأمة العربية التي تنتمي إليها مصر ووعيها ومسؤولية قياداتها. من هنا، فإن من أبرز إنجازات عبدالناصر: تاكيد انتماء مصر للأمة العربية، وقيادة مصر لهذه الأمة وتحمل تبعات ذلك. ومن هنا، كان تعامل مصر النشط مع الوضع في كل بلد عربي، ودعمها القوي للثورات كما في الجزائر واليمن الجنوبي، ونضال الشعوب العربية ضد الهيمنة الغربية وتبعية أنظمتها واستبدادها. وفي مرحلة لاحقة، وضمن وضع مختلف، بادر عبدالناصر بالدعوة لأول قمة عربية للجامعة العربية في الإسكندريى في 1964، إثر تحويل إسرائيل لروافد نهر الأردن؛ حيث تكرست مؤسسة القمة في محاولة منه لتحقق الجامعة العربية الحد الأنى للدفاع القومي وللتضامن والتنسيق العربي.

* كاتب وحقوقي من البحرين