الاحتواء الصيني للاستراتيجية الأمريكية في آسيا (1)

ماهر القصير – السعودية
باحث في السياسة الدولية


التحرك الأمريكي العسكري الذي يستهدف تزود الصين بالنفط , حدا بالصين لتطوير قواعدهم البحرية، حيث يبذلون الجهد لبناء مرافئ نفطية وممرات نفطية برية تصل مباشرة بين آسيا الوسطى والصين عبر الاتحاد الروسي. إن التعاون بين الصين وروسيا وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى يهدف إلى فتح ممر أطلسي- آسيوي يضمن استمرار تزود الصين بالطاقة عندما تعمد الولايات المتحدة إلى فرض حصار بحري في المحيطات. وثمة مباحثات دائرة اليوم بالتعاون مع روسيا حول مد أنبوب للغاز من إيران إلى الصين، مروراً بباكستان  والهند.
ومع النمو الكبير المتوقع في حاجة الصين إلى الواردات من النفط والغاز، خاصة تلك الآتية من منطقة الشرق الأوسط، فليس من المستبعد قطعيا أن تدخل المنطقة في النطاق الحيوي الاستراتيجي المتمدد للصين، الأمر الذي يترتب عليه تعزيز وجودها العسكري في منطقة المحيط الهندي والبحر العربي لغرض حماية إمداداتها النفطية من منطقة الخليج العربي وإفريقيا، حيث إن وجودها الحالي المتمثل في بعض القطع البحرية الموجودة قرابة السواحل الشرقية لإفريقيا، التي اقتصرت عملياتها على حماية السفن التجارية من أعمال القرصنة المنطلقة من الصومال، لا توفر لها التوازن في القوة مع الوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، مما يؤكد أهمية التحالف الاستراتيجي مع روسيا لتغطية هذا النقص حيث أن البحرية الروسية و قوة انتشارها تستطيع تأمين الحماية لمصالح الصين المتنامية في المنطقة مع شركاء إقليمين بالطبع في أفريقيا و إيران .
فالصين تفسر التحول في الاستراتيجية الأمريكية نحو الشرق الأقصى وتحركاتها العسكرية في المنطقة على أنها جزء من عملية احتوائها، بينما تنكر الإدارة الأمريكية تهمة الاحتواء وتتهم الصين في المقابل بأنها تسعى إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وإضعاف فعالية وجودها العسكري والأمني في مناطق طالما كانت في نطاق نفوذها التقليدي.
لقد عارضت الصين المقترحات والمبادرات المتعلقة بالاحتباس الحراري. وهي تعتبر أن موضوع المناخ يشكل تحدياً فرضه التطور الاقتصادي في الصين وفي البلدان النامية. وتعتقد أن هدف مبادرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول التغير المناخي هدفه دفعها نحو التقليص من انبعاث ثُاني أوكسيد الكربون بغية إعاقة حيويتها الصناعية والاقتصادية.
ومع النمو الاقتصادي المستمر للصين حيث أصبحت اليوم ثاني اقتصاد في العالم من حيث الحجم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شهدت القوات المسلحة الصينية تطورا جذريا منسجما مع التطور الاقتصادي، أصبحت معه تمثل منظومة متكاملة من القوات البرية والبحرية والجوية، فضلا عن شبكة متقدمة من الأقمار الصناعية للأغراض العسكرية.
لقد اندفعت الصين في سياسة بحرية مؤثرة هدفها أمن بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي. وهذه المناطق البحرية تطابق جميعها الممرات البحرية الدولية التي تنقل نفط إفريقيا والشرق الأوسط نحو الصين. وبالتالي فهدف الصين حماية تزودها الحيوي بالطاقة من بحرية الولايات المتحدة وحلفائها. هذا، بينما يسمي البنتاغون قواعده البحرية “عقد الجمان” بسبب أهميتها الجيوإستراتيجية في توازن القوة البحرية في المحيط الهندي.
أعدّ البيت الأبيض هذه الإستراتيجية في 31 أيار 2003، وفيها قرر السماح بانتهاك القوانين الدولية. فالقوانين الدولية لا تسمح لبحرية الولايات المتحدة وحلف الأطلسي بتفتيش واستجواب البحرية التجارية الأجنبية المتواجدة في المياه الدولية.
وبالتالي فعمليات الولايات المتحدة هذه هي غير شرعية بموجب القسم السابع من “اتفاقية الأمم المتحدة حول حق البحار” “1982″، إلا في حال وافق عليها البلد الذي تأتي منه السفن التجارية. فالقوات البحرية لا يحق لها تفتيش غير سفن بلدها بالذات، أللهم إلاّ إذا كانت هناك اتفاقيات ثنائية مع بلد آخر يسمح لها بذلك.
الولايات المتحدة تنتحل الحق بالمراقبة التعسفية للسفن الأجنبية: لا يحق تفتيش واستجواب السفن الأجنبية في المياه الدولية إلاّ إذا كانت تلوث المياه على مقربة من بلدان القوات البحرية، أو في حال الشك المبرر بالقرصنة. وعلاوة على ذلك فالسفن العائدة لبلد ما والموجودة في المياه الدولية تتمتع بالحصانة: لا يحق توقيفها وتفتيشها أو القبض عليها من قبل بحرية أخرى. وعليه، تبعاً لهذه القواعد الدولية، يكون قيام البحرية الأميركية بتوقيف سفينة تعود لكوريا الشمالية أو سورية أو الصين عملاً غير شرعي. ولكن مع النظام الجديد الذي طرحته وطبقته الإدارة الأميركية إزاء كوريا الشمالية بدأ كل شيء يتغير، خصوصاً في مياه المحيط الهندي والهادئ. ولهذا فإن العديد من حكومات البلدان الآسيوية، ومنها ماليزيا، انتقدت علناً هذه العمليات وشككت بشرعيتها.
بالطبع ارتابت الصين بهذه المبادرة ورفضت المشاركة في مشروع 2003. فالصين ترى فيه وسيلة تسمح للولايات المتحدة وحلفائها بالاستمرار في التحكم بالمياه الدولية وبالتجارة العالمية. وإذا ما انضمت روسيا إلى هذا المشروع فلأن وضعها يختلف عن وضع الصين التي تتأثر كثيراً بالتجارة البحرية وبالمياه الدولية؛ هذا بالإضافة إلى قدرة البحرية الروسية دوماً على توقيف وتفتيش سفن الولايات المتحدة التجارية.
وليس من الصدفة أن يتم اختيار سنغافورة واليابان وبحر الصين الشمالي، وجميعها يقع في جوار الصين مباشرة، كموقع أساسي للعديد من المناورات التي دارت تحت شعار “مبادرة الأمن للحد من تكاثر الأسلحة النووية” والتي شاركت فيها روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وأستراليا وكندا وسنغافورة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. وهكذا تم بشكل غير شرعي توقيف وتفتيش عدة سفن كورية شمالية منذ تطبيق هذه المبادرة؛ والصين كغيرها من البلدان عرضة للتهديد بعمليات عالمية غير شرعية تذكر بمناطق الحظر الجوي التي فرضتها الولايات المتحدة وفرنسا بشكل غير شرعي على العراق فبل اجتياحه الأخير. إن في ذلك سابقة لاعتراض السفن الصينية والتجارة مع الصين.
أهمية سريلانكا الجيوإستراتيجية: تقع جميع المنشآت الصينية على طول هذا الممر الحيوي. فمرفأ غوادار في باكستان على ساحل بحر عُمان بناه الصينيون. وهناك اتفاقية موقعة مع سريلانكا تحصل الصين بموجبها على حق استخدام مرفأ هاماباتوتا جنوبي  الجزيرة. كما أن الصين صممت بناء مرفأ في ميانمار، وهي حليفة للصين على أهمية جيوستراتيجية. وبناء هذا المرفأ من شأنه القضاء على أي عقبة أو تهديد للحركة في مضيقي تايوان وملاكا. والصين متصلة بماينمار عبر شبكة من السكك الحديدية وطرق للنقل، ما يصل بين سواحل ماينمار وجنوبي  الصين.
ويولي الأسطول الأميركي في المحيط الهادئ أهمية إستراتيجية لجزيرة غوام  في المحيط، ولهذا فإنها تعزز تعاونها أستراليا وسنغافورة والفيليبين واليابان من أجل استكمال تطويق الصين. وفي هذا الصدد فإن قضية صواريخ كوريا الشمالية النووية تستخدم كذريعة مثالية لمزيد من تطويق الصين.
إن “مبادرة الأمن للحد من تكاثر الأسلحة النووية”  التي أطلقها بوش الابن عام 2003 مباشرة بعد اجتياح العراق هي أيضاً وسيلة للتحكم بالتجارة العالمية ولقطع الطريق على تزود الصين بالطاقة في حال العدوان عليها.
و قد نشر موقع مقر قيادة الباسيفيكي الأمريكية (باكوم) على الإنترنت تفاصيل عن القوات العسكرية الأمريكية المنتشرة أصلاً في منطقة آسيا الهادي:
- نحو 350 ألف عسكري، يشكلون خُمس مجموع القوات الأمريكية.
- أسطول الباسيفيكي الأمريكي، التابع لقيادة “باكوم”، يتضمن ستاً من مجموعات حاملات الطائرات الضاربة الإحدى عشرة، ولديه نحو 180 سفينة، و1500 طائرة، و100 ألف جندي.
- القوات البحرية القتالية في الباسيفيكي تتكون من ثلثي القوات البحرية القتالية الأمريكية، وقوة حاملات بحرية تضم 85 ألف عسكري.
- القوات الجوية الأمريكية في الباسيفيكي تضم أكثر من 40 ألف طيار وملاح، وأكثر من 300 طائرة، إضافة إلى 100 طائرة متمركزة في جزيرة غوام.
- القوات البرية الأمريكية في الباسيفيكي تضم أكثر من 60 ألف عسكري وخمسة ألوية مؤللة.
- لدى قيادة “باكوم” أيضاً قوات عمليات خاصة يقدر عددها بنحو 1200 عسكري.
- وتعمل تحت امرة “باكوم” ثلاث قيادات موحدة تابعة هي: قيادة القوات الأمريكية في اليابان، وقيادة القوات الأمريكية في كوريا، وقيادة آلاسكا.
وفي السنوات الأخيرة، أخذت قيادة “باكوم” تتغلغل في دول آسيوية كانت محظورة عليها إبان الحرب الباردة وخلال عقد ونصف العقد بعدها، حيث أصبحت تجري مناورات مشتركة سنوية في منغوليا وكمبوديا. وهناك دول أخرى تشارك في مناورات إقليمية إلى جانب قوات أمريكية، مثل تايلاند، وسنغافورة، وإندونيسيا، والفلبين.
ولهذا السبب فإن محور واشنطن لمنطقة المحيط الهادئ يقلق بكين. لأنه يهدد النفوذ الصيني الجديد المتنامي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ , فتشكل لدى القيادة الصينية رؤية لدفع التهديدات الأمريكية عنها و بنفس الوقت التمدد و السيطرة على المجالات الجيوسياسية الحيوية للولايات المتحدة كما اخترق القراصنة السايبيريون الصينيون مواقع الشركات الأمريكية ليستولوا على تصاميم الأسلحة الأمريكية المتطوّرة والأكثر سرية وحساسية، وأنظمة الدفاعات الصاروخية، مفخرة العسكرية الأمريكية، والطائرات والسفن المقاتلة.
فبدأت الصين بتطويق الولايات المتحدة بإبحار السفن الحربية في المياه الأمريكية وبتسليح الجيران, حيث دأبت على السير بخطوات هادئة باتجاه تطويق الولايات المتحدة، من خلال تسليح الدول الواقعة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، في إطار سعيها لتمتين العلاقات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية مع جيران الولايات المتحدة حيث قامت في الآونة الأخيرة فنزويلا والإكوادور وبوليفيا والمكسيك، بشراء أسلحة صينية ، ومن خلال تسيير السفن الحربية في المناطق البحرية التابعة للولايات المتحدة.
تعزّز الصين بهدوء وثبات وسرعة تغلغلها وبسط نفوذها مكثّفة استثماراتها في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وفق مقاربة شاملة لا تقتصر على ضمان مصدر للموارد المنجمية والمحروقات فحسب بل تتجاوزها إلى المساهمة في البنى التحتية للسكك الحديدية والصلب وكل المشاريع العملاقة والإستراتيجية. تماما كأفريقيا والدول العربية، فإن أمريكا اللاتينية، أضحت بالنسبة للحكومة الصينية مجالا خصبا لتطبيق المبادئ الخمس لما يُسمّى “ميثاق بكين”.

تعليق عبر الفيس بوك