علي بن مسعود المعشني
ولد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918م وفي مثل هذا اليوم تحل مئويته التي يحتفل بها محبوه ومن عاصروه من أحرار العالم.
جمال عبدالناصر ظاهرة عربية خالصة سطعت في سماء السياسة العربية المعاصرة ومن رحم دولة الاستقلال العربي وفي زمن الدولة القُطرية العربية، هذه الدولة التي ولدت قسرًا وكرهًا من رحم الخلافة، فشكّلت عبئًا على النظام الرسمي العربي والذي لا عهد له في إدارة الدولة القُطرية المنتزعة والمجزأة من كيان الأمة الواحد في تكوينه وثوابته ومصيره.
لم يفهم العرب المعاصرون لغاية اليوم أن أكبر معوقات نهضتنا كعرب هو الإقليمية والقُطرية والتي فرضت على كل قُطر عربي أن يعيش دور الكيان ويتمثل به رغم وهنه وضعفه وتفرد الأعداء به.
حين دانت الحضارة البشرية للغرب وتفرّد بقيادتها وسطع نجمه تدريجيًا بالتزامن مع خبو نجم الحضارة العربية الإسلامية، لم يمتثل الغرب لقواعد الصراع الحضاري وسيرورة التاريخ ودول الأيام بل تسلح بكل أدوات المدنية العارية والمصلحة والتبريرية للصراع مع العرب مستغلًا الفجوة المعرفية التاريخية التي أصابتنا جراء الخلافة العُثمانية والتي شكلت حدثًا عارضًا في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وشغلت نفسها بأدوات ومصالح خاصة وانشغلت في بناء مجد عارض لمؤسسيها نابع من ثقافتهم العضلية الخالصة والتي أنتجت بالضرورة ما أسمته بالفتوحات والانشغال بالحروب شرقًا وغربًا ولم تواصل أو تؤسس لأي أثر علمي أو ثقافي يستنهض الأمة ويعيدها إلى مسار التاريخ والحضارة، وهنا وجد الغرب ضالته والوضع المثالي للتفرد بالأمة العربية الحاضن للمشروع الحضاري، حيث أكمل ما أنتهى منه الحكم العثماني من تجهيل وتتريك ونزهة قسرية خارج مسار التاريخ والأثر الحضاري حيث أعمل شتاته وفرقته وتقسيمه على الأمّة بفعل احتلالاته المباشرة وتقاسم النفوذ والسيطرة عليها.
بقيام الثورات العربيّة المقاومة للاحتلالات الغربية ونيلها الاستقلال تباعًا، كان الواقع العربي أسوأ من العهد العثماني والذي كان رغم كل مساوئه يتحدّث بلسان الخلافة الواحدة والدولة الواحدة والكيان السياسي الواحد وإن كان شكليًا.
لم يكن من اليسير على الحاكم العربي في دولة الاستقلال أن يدير حكما ويؤسس لدولة ومشروع وحدوي، ويتحدث باسم حضارة غابرة وحيدًا وبمعزل عن الكل وبالنيابة عنهم دون ثمن، ولم يكن من المتاح لتجربة قُطرية أن تنجح في ظل كيان عربي ممزق وسليب ومعتل ومخطوف من الغرب ومسلوب الإرادة منه كذلك وبوجود طابور خامس عميل ومنبهر ما لم يقم كرهًا وطوعًا بدور الكيان ويستنهضه ويشكل نواته وحاضنه ومشروعه، ويتحمّل جميع التبعات ويواجه مصيره المحتوم من الغرب الاستعماري، والذي مزّق وشتت وأوهن كي يستمر في سيطرته ويمتد تأثيره عبر الاستعمار الجديد والمتمثل في التبعية.
في بحر هذا المناخ ومن رحم هذا الإرث المؤلم خرج الزعيم جمال عبد الناصر وخرجت الناصرية لتشكل ظاهرة عربية خالصة للمشروع النهضوي والوحدوي العربي ولتمتد جذورها ورسالتها وجذوتها نحو كل أحرار العالم في مشارق الأرض ومغاربها لتقويهم وتستقوي بهم أمام القوى الاستعمارية الشرسة.
عبقرية الثورة الناصرية - رغم مصريّتها الخالصة في الأسباب والأهداف – أنها أدركت وتداركت سريعًا بُعدها القومي ودور مصر التاريخي ورسالتها وأثرها وحضنها الحضاري للمشروع النهضوي العربي فأضفت بُعدًا عالميًا لرسالتها وأردفت حصانتها ومناعتها في مواجهة الأعداء في الداخل والخارج، وتمكنت من تشكيل ظاهرة حضارية عابرة للأجيال والحدود، ظاهرة عصية على الاندثار فوجدنا الناصرية في كتلة عدم الانحياز وفي عقول أحرار العالم لغاية اليوم.
وعبقرية الناصرية أنّها تسلحت بمكونات مصر وتاريخها وثوابتها وقدراتها ومقدراتها وتشبهت بها فاستنهضت كل فئات الشعب فأطلقت العنان لكبرياء مصر والمصريين، وأحيت بداخلهم كل بذور وجينات الوطنية والشرف بعد قرون طويلة من الارتهان لحكم الغرباء وهيمنة الطامعين، لهذا يصف العبقري د. جمال حمدان مؤلف كتاب "شخصية مصر" الناصرية بأنّها امتثال من يحكم مصر لمكانة ومقومات مصر ومقدراتها البشرية والجغرافية والطبيعية والتاريخية والحضارية.
من عبقريات الناصرية الكبرى أنّها أدركت أنّ المواجهة مع الخصوم تتطلب قطع جميع أقنية تأثيرهم من تجارب مستوردة كالحزبية والبرلمان والمجتمع المدني كي لايخرج العدو من الباب ويعود من النافذة، حيث استبدلت الناصرية تلك الأدوات بأخرى وطنية بعد أن استنطقتها وأدركت بأنّها قيم بشرية عامة وحاجات مجتمعات بالدرجة الأولى لم يبتكرها أحد، فلجأت إلى تطبيق فلسفات تلك الأدوات والمفاهيم وفق حاجة مصر الناصرية وقيم مجتمعها وتطلعات شعبها.
من عبقريات الزعيم الخالد جمال عبدالناصر أنّه شخص فطري في تكوينه المصري والعربي والمسلم، لهذا كان وسطيًا في كل شيء، وعفويًا وصادقًا في كل شيء كذلك، لا يعرف الفجور في الخصومة، ويتمتع بكل مبادئ الرجولة وقيم العربي الحر فلجأ إليه أعداءه واحترمه خصومه وأحبه كل من عرفه أو تعرف عليه.
كان عبدالناصر زعيمًا بكل ما تحمله الكلمة من معاني، فهو الأب والأخ والصديق والرئيس، هو العربي والمسلم والمسيحي والقبطي والنوبي والكردي والأمازيغي لقد كان عبدالناصر شخوصا لاتُحصى في حياته وبعد مماته لهذا لم يمت بل رحل لكي يبقى ثم يعود ذات يوم نهجًا وثقافة ونبراسًا.
هناك من افتقد جمال الزعيم وهناك من افتقد جمال الرئيس وهناك من افتقد جمال المفكر والمثقف والقارئ النهم، وهناك من افتقد جمال الأخ ومن أفتقده كأب ومن افتقده كصديق ومن افتقده كحكيم وناصح، لهذا فالزعيم فقيد أمة بكل ما تحمله كلمة الفقد من معانٍ ودلالات.
لا شك عندي أنّ من خلفوا الزعيم عجزوا عن أن يشبهوه بشيء على الإطلاق وعجزوا كذلك عن أن يتشبهوا بمصر على الاطلاق، فبحثوا عن ذواتهم طويلًا حتى اقتنعوا برهن مصر للجرذان وشذاذ الآفاق باسم الاستثمار والانفتاح والواقعية والسلام، واختاروا لأنفسهم أن يكونوا عبيدًا للعبيد.
آمن الزعيم جمال عبدالناصر بمقولة من أراد السلام فليستعد للحرب، وبسر الصراع في الوجود فتحولت مصر في عهده إلى ورشة كبرى مليئة بالمنجزات المادية والبشرية، واختار من خلفه إلقاء السلاح وإلغاء الصراع بزعم التنمية والاستقرار فتكالبت عليهم الذئاب والذباب.
أجمل ما قيل عن عبدالناصر:
"إنه رجل وسعت همته آمال أمته" (ماو تسي تونج)
- ملوك الفراعنة حلموا بتأمين منابع النيل، فذهبوا بجيوشهم للحبشة ليأمنوا مياه النيل، وعبدالناصر حقق الحلم باحتواء إفريقيا وبناء السد العالي.
- وأهالي قرية زفتي وقائدهم يوسف الجندي فشلوا بإعلان جمهوريتهم وعبدالناصر حقق الحلم لمصر كلها.
- حقق حلم أحمد عرابي في استقلال الجيش من الأتراك. وبنى عبدالناصر الجيش القوي.
- استكمل مسيرة سعد زغلول وثورة 19 في جلاء الإنجليز وتحقيق الاستقلال.
- حتى هدى شعراوي رائدة استقلال المرأة حقق عبدالناصر حلمها في حق المرأة واستقلالها.
- ولكن العدالة الاجتماعية لم يكن لها أحد حالم فكانت هدية من جمال عبدالناصر.
ألم يكن عبدالناصر هو الفانوس السحري للمصريين!؟".
قبل اللقاء:
رثاء الزعيم للشاعر محمد مهدي الجواهري
أكبرت يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء
أَوَ يُرزقون؟ أجل، وهذا رزقهم
صنو الوجود وجاهة وثراء
صالوا الحياة، فقلت دَيْنٌ يقتضى
والموت قيلَ فقلتُ كان وفاء
أثنى عليك وما الثناء عبادة
كم أفسد المُتعبّدون ثناء
لا يعصم المجد الرجال وإنّما
كان العظيم، المجد والأخطاء
قد كنت شاخص أمّة نسماتها
وهجيرها، والصبح والإمساء
ألقت عليك غياضها ومروجها
واستودعتك الرمل والصحراء
كنت ابن أرضك من صميم ترابها
تعطى الثمار، ولم تكن عنقاء
تتحضّن السرّاء من أطباعها
وتلُمّ – رغم طباعك – الضرّاء
قد كان حولك ألف جار يبتغى
هدمًا، ووحدك من يريد بناء
لله صدرك ما أشدّ ضلوعه
في شدّة، وأرقّهن رخاء
أثنى عليك، على الجموع يصوغها
الزعماء، إذ هي تخلق الزعماء
ناهضت فانتهضت تجرّ وراءها
شمم الجبال عزيمة ومضاء
ونكست فانتكست، وكنت لواءها
يهوى، فما رضيت سواك لواء
لسنا ملائكة ولكن حسبنا
إغراؤها، لنقاوم الإغراء
فيم التعجّب، لا نُحمّل وزرنا
قدرًا، ولا ما نحن فيه قضاء
يا ابن الكنانة وابن كل عظيمة
دهياء، تُحسن فى البلاد بلاء
ذبح الفداة ورحت أنت ضحيّة
عنهم، وما أغنى الفداء فداء.
وبالشكر تدوم النعم