مناجم الذهب (4)

 

عائشة البلوشية

توجس مندوس -المغلوب على أمره- خيفة أن يكون قد سقط من على ظهر الراحلة، وبسرعة الخبير ضرب بنظره إلى نهاية القافلة علَّه يرى خللا في سيرها، لكن الأمور بدت هادئة، فتفقد البعير وإذا بذلك الحيوان المسكين ينوء بذلك الثقل فوق رقبته، حيث إن استغراقه في النوم جعله يهبط تدريجيًا من الأعلى إلى عنق البعير، فكتم مندوس ابتسامة الراحة التي أحسها ستخرج على هيئة قهقهة وأيقظه ساحبًا إياه إلى أعلى السنام قبل أن ينتبه إليه أحد، ولولا عناية الله لربما كان قد نفضه البعير ليتخلص منه وأوقعه أرضًا، ودهسته الدواب، فالإبل مخلوقات تتناغم مع راكبها، ولها حاسة عجيبة في استشفاف خوف راكبها وتلكؤه عند الركوب، سبحان خالقها جل جلاله.

رغم إحساسه بالحزن لفراقه لبعيره الأعرج الذي رافقه حتى وصوله إلى إمارة دبي، إلا أنَّها كانت رحلة مميزة، فقد عبرت بهم في خط سير مرَّ خلال الصحراء إلى إمارة دبي ثم البحرين وأخيرًا المملكة العربية السعودية، كانت رحلة مليئة بالمفاجآت الرائعة، فقد تعرف على السينما ﻷول مرة في حياته، والسينما التي رآها في دُبي كانت عبارة عن ساحة فارغة، مسيجة بجدران عالية، والشاشة عبارة عن جدار مرتفع مدهون باللون الأبيض، تنعكس عليه شخصيات الفيلم من خلال آلة خاصة موضوعة في الجهة المُقابلة لشاشة العرض، أما الصوت فكان عبارة عن مكبرات موزعة ليصل الحوار إلى المشاهدين، ولسوء حظه كان الفيلم عن عنترة بن شداد، وعندما دار القتال وطُعن أحد الممثلين بالسيف، أطلق طفلنا صرخة رعب مدوية، فأخرجه الرجل الذي اصطحبه إلى خارج المكان وهدأ من روعه، صرخ طفلنا رعباً لأن خليف بن سعيد لم يحضر الأسلحة معه، وربما تم قتلهم مثل عنترة، ضحك خليف وأخبره بأنَّ هذه (سينمه) وما يدور بها ليس حقيقياً، ظلت هذه التجربة مطبوعة في ذاكرته كبصمات أصابعه، لانبهاره الشديد بجمال الفكرة، فقد كان يستمع إلى الأصوات عندما كان في العراقي عبر المذياع الخاص بخاله العزيز الشيخ سالم، من نشرات أخبار وتقارير وأغانٍ وغيرها، ولكنه اليوم شاهد أشخاصًا يتحركون ويتعاركون ويعيشون حياة غريبة عليه، كل هذا كان على جدار، رحلة نقلته من مرحلة الاستماع إلى المشاهدة.

كما تعرف على شيء مذهل جدًا أحبه من صميم قلبه، رآه ﻷول مرة وهو الكهرباء، فاندهش لجمال الإنارة المتوزعة على أعمدة طويلة تحيل الليل إلى نهار في الشوارع، التي تختلف تماماً عن سراج "أبو سحة" الذي كان وسيلة الإنارة الوحيدة في الليالي الحالكة هو وأبناء عمومته حينها "الفنر" ذي اللهب البرتقالي، و"التريك" ذو الضوء الأبيض في العراقي، اللذان لا يضيئان أكثر من دائرة قطرها لا يتجاوز المترين أو الثلاثة، فأحب هذه التقنية التي رآها في البحرين، وهناك أيضًا شاهد أنواعاً أخرى وأجمل السيارات، والطرق المنظمة التي تسير عليها السيارات، كانت السيارات التي رآها فارهة جميلة وتختلف تمام الاختلاف عن سيارة الجيش الوحيدة التي رآها صدفة لمرة واحدة في العراقي.

أما رحلة البحر وركوب "اللنج" كان لها طعم آخر، امتزج فيها طعم الخوف والإثارة بطعم ملح البحر الذي تذوقه ﻷوَّل مرة، كان يملأ عينيه بزرقة المياه الممتدة حتى الأفق، ويراها تلامس السماء الزرقاء، ويتفكر بتلك الامتدادات اللانهائية من الرمال الذهبية الرائعة، لينتقل بعدها إلى هذا المد الهائل من المياه الزرقاء، تلك سماء مليئة بالنجوم والمجرات، وهذه سماء تنتشر في رحابتها النوارس والغمامات البيضاء تُحيط بهم من كل صوب، تلك سفينة صحراء -رغم عرجها- كانت تتحرك بخفها فوق سطح الرمل الأملس، وهذه سفينة البحر تموج بهم فوق صفحة الماء، كلها وسائل نقل تتحرك يمنة ويسرة تحملهم في هذه الرحلة العجيبة، كان طفلا يسأل كثيرا ويشرد أكثر، متفكرا فيما يسمعه ويراه أغلب الأوقات، ويتساءل فيما ينتظره هناك في الدمام، وهل سيرى أكثر مما وجده حتى الآن.

رغم دوار البحر المزعج وتلاطم الموج، إلا أن هذا لم ينزع منه فضول البحث عن جمال الأشياء والأماكن والأشخاص من حوله، فقد وصلوا إلى الدمام وأخذ ينظر إلى المنازل والأشجار المتناثرة، رغم كثافتها وكثرتها لكنه لم يجد تلك اللذة التي يلمسها عندما ينظر إلى بيوت العراقي وما حولها، ورغم التحضر الواضح الذي وجده في الأبنية والطرقات، لكن شيئاً ما كان يحرك ذلك الشعور المؤلم بالحنين إلى الوطن.

 

وفجأة شاهد ما يشد انتباهه، برجا طويلا من الفولاذ يشمخ باللونين الأبيض والأحمر، تعلوه إضاءة حمراء، إنه لم ير مثل هذا البرج طوال رحلته، وعندما سأل - وهو المولع بالأسئلة- عن ماهية ذلك الشيء، قيل له إنهم في الدمام يطلقون عليه البرقية، وما هي البرقية؟ أطلق السؤال والفضول يكسو قلبه، فجاءه الرد بأنها التي تحمل مكالمات التلفون (الهاتف)، وما هو التلفون؟ كان يتمنى أن يسأل لكنه آثر الصمت حتى لا ينهره والده لكثرة أسئلته، ولابد أنَّه سيعرف ذلك عاجلا أم آجلا خلال فترة مكوثه هناك، وليستمتع الآن برؤية وقرب والده الذي لم يشبع من قربه وهو المرتحل من أجل العيش الكريم، نظر بحب وفخر إلى ذلك الرجل القوي البنية الجالس إلى جواره، رجل صقلته صحراء جدة الحراسيس حتى بلغ من العمر أربعة عشر عامًا، وعاد إلى عبري فارساً مغوارًا لا يضاهيه في فروسيته وشجاعته أحد -رحمه الله-.

(يتبع)..

 

____________________________

 

توقيع: "أجي ملهوف .. عطش تحت المطر ملهوف

وقتي يطوف.. لوني ضائع

ومخطوف

يضيع الشارع بصمتي

وصمت الانتظار سيوف"

فايق عبدالجليل.