سؤال في التفسير, محاولة في البحث عن منهج

أ.د/ وليد محمود خالص – العراق
عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة


كتاب "سؤال في التفسير, محاولة في البحث عن منهج " بجزئيه الأول والثاني, للدكتور سعيد الزبيدي " حوار" بين أستاذ, وطالب, عموده آيات من التنزيل العزيز, أشكلت فيها نقاط على الطالب فسأل, وتحمّل الأستاذ مؤونة الإجابة, وهي ليست باليسيرة, غير أننا في الضفة الأخرى, علينا أن نقر للطالب بأشياء من خلال هذه الأسئلة, منها هذا الظمأ للمعرفة الذي يلازمه, فيطمح إلى كشف ما خفي عليه, والاستزادة من العلم, ومنها أن في الطالب نباهة, وذكاء, يدل عليهما نوع الأسئلة التي ألقاها بين يدي الأستاذ, وهذا يعني أنه قرأ, وفتش, وتوصل إلى بعض ما يريد, ولكنه لم يظفر بأجوبة على هذه الأسئلة, فآثر وضعها أمام نظر الأستاذ, عله يجد جواباً, وقد كان, ثم أليس " السؤال"  دليلاً ساطعاً على عقل (السائل), فكلما كان السؤال رصيناً, نافذاً, دل على سعة عقل (السائل), ونفاذ بصره, وتعطشه للمزيد, ثم – مرة أخرى – أليس (التقدم) بمعناه الواسع وليد الأسئلة ؟ وذلك حين يشعر هذا (السائل) بنوع من الحيرة, وشيء من القلق, وكثير من الضيق بواقعه, فيسأل عن ذاك الذي حيره, وأقلقه, وأدخله في مسالك الضيق, راغباً في معرفة الأسباب التي أدت به إلى ذلك, وحين يشتغل (الحوار) تبدأ دورة جديدة أخرى من المعرفة, لعلها موصولة بما سبق, ومفارقة عما مضى في آن واحد, بحكم حداثة الأسئلة, وما تحمله من قلق, وحيرة من جهة, والزاد المعرفي الجديد الذي تضطلع به الأجوبة من جهة أخرى,ولعل ما ينفع ذكره هنا, هو أن السؤال, والحوار القائم حوله, كان من سمات الحضارة العربية الاسلامية في زمن إقبالها, ويكفي أن نشير هنا إلى ما ساقه ابو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) ( ينظر : 1/129-130), عن أبي سعيد السير افي, النحوي الشهير, من أن الأسئلة كانت تنهال عليه من أصقاع شتى, تطلب منه الجواب, إذ نرى ( نوح بن نصر, وكان من أدباء ملوك آل ساسان .... يكتب إليه.... يسأله عن أربعمائة مسألة الغالب عليها الحروف ), ومن غرائب المصادفات أن يكتب إليه (المرز بان بن محمد ملك الديلم  من أذربيجان ... يسأله عن مائة وعشرين مسألة, أكثرها من القرآن) ومثله (ابن حنزابة من مصر... الذي سأله  عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن السلف), وهكذا. ألا يدل هذا دلالة جلية على علو مكانة (السؤال), وإرتفاع رتبة (الحوار)؟ فإذا إرتحلنا إلى زماننا هذا, ألا يحق لنا أن نقول إننا اليوم في عصر الأسئلة , بعد أن اقتربت المسافات, وتغير مفهوم الزمن, ودنت  السماء من الأرض, ولم يقع هذا إلا بالسؤال, فهو مفتاح المعرفة, ومجاز الاستزادة, وعتبة التجاوز, وقد ورد في الأثر : مفتاح العلم السؤال, ومن قصار حكم علي بن أبي طالب قوله (كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع) ولعل واحدة من أظهر وسائل إتساع العلم, السؤال, وما أدراك!
ينضوي هذا الكتاب, وذاك الذي سبقه تحت علم (تفسير القرآن الكريم), فهكذا أراده صاحبه, الصديق الدكتور سعيد الزبيدي, والتفسير علم جليل, ذو تاريخ معرق في الثقافة العربية الاسلامية, وكأن العلوم العربية الاسلامية برمتها قامت حول القرآن الكريم, تقبس منه, وتعالج مباحثه الكثيرة, المتنوعة, وهو الذي دعا جمهرة من الدارسين إلى اعتبار الثقافة العربية الاسلامية ثقافة كتاب, أي الثقافة التي نشأت, وقوي عودها, واشتد ساعدها, ونضجت ثمرتها في ظلال القرآن الكريم, ونرى الزركشي يخص علم التفسير بحديث طويل, يقول في بعضه: (..... التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله, المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وبيان معانيه, واستخراج أحكامه, وحكمه, واستمدوا ذلك من علم اللغة, والنحو, والتصريف, وعلم البيان, وأصول الفقه, والقراءات, ويحتاج لمعرفة أسباب النزول, والناسخ والمنسوخ)(البرهان في علوم القرآن, 1/13) وليست هذه (المعرفة), وهذا (الفهم) مبذولين لكل من أراد, فلا بد من إستعداد, وكد , و أدوات, ويبلغ السيوطي الغاية في المنهجية حين يذهب إلى أن (المفسر يجب أن يجيد خمسة عشر علماً . هي اللغة... والنحو.... والتصريف.... والاشتقاق.... والمعاني.... والبيان.... والبديع.... وعلم القراءات.... وأصول الدين... وأصول الفقه..... وأسباب النزول والقصص... والناسخ والمنسوخ.... والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم... والفقه) (ينظر: الإتقان في علوم القرآن 2/510 وما بعدها) فهذه أربعة عشر علماً, ويستبقي علماً, جعله الأخير, وأطلق عليه مصطلحاً هو (علم الموهبة) ويشرحه بقوله (... وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم, وإليه الإشارة بحديث: من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم," ويعلق بقوله (..... ولعلك تستشكل علم الموهبة, وتقول: هذا شيء ليس في قدرة الإنسان, وليس كما ظننت من الإشكال, والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل, والزهد) (الإتقان, 2 / 513), وكأن فقه ما ذهب إليه السيوطي يشير إلى جعل المفسر القرآن الكريم شغله الشاغل, منصرفاً إليه بكليته, مشتغلاً به, عاملاً بأحكامه, مجتنباً نواهيه, مطيلاً قراءته, ومدارسته, حادباً على التأمل فيه, وتدبر آياته. أقول: إن المفسر إذا صنع ذلك كله تفتحت له أبواب من الفهم, وطبقات من المعنى, ونفحات مما هو مخبوء في سياق الكلام, لم تتهيأ له, لو حصل تلك الأدوات وحدها, ووظفها بمعزل عن (علم الموهبة), فكأن الجميع يتضافر لتحقيق الغاية, وهي تقديم تفسير يليق بكتاب الله, وسيلته جداول العلم المقرونة بالعمل, والدأب, ودوام المواصلة.
ومما يجب أن يقال هنا أيضاً, إن تاريخ التفسير يشهد أن المفسرين اختطوا لأنفسهم طرقاً, ومناهج تتناسب مع استعداداتهم الفكرية, ومحصولهم المعرفي, فهناك من يأخذ بالقريب من التفسير, وهناك من يستفرغ جهده في البعيد من التأويل, ومنهم من يجعل علماً واحداً, أو علمين همه, ليصرف إليهما همته في التفسير, كأن يكون النحو والإعراب, أو الفقه, أو البلاغة, أو علم الكلام, وما إليها من العلوم الإسلامية, ولا ننسى هنا تأثير الفرق الإسلامية على مباحث من التفسير, مما نستطيع تسميته بشيء من التحفظ بمدارس التفسير, تلك التي تجعل من المذهب, أو الاتجاه الفكري ركيزة يتخذها المفسر للانطلاق, مبيناً فهمه الخاص لآيات الكتاب المجيد, بالاتكاء على ما سبق, غير أن أولئك جميعاً يستقون من نهر القرآن الكريم العذب, ويفيدون من لسانه العربي المبين, فالمنبع واحد, وإن اختلفت الطرق, وهذا هو أقوى الادلة على إعجازه, وتفرده, وازدياده خصوبة على مر الأيام, وتوالي العقول عليه.
وتأسيساً على ما تقدم, فإن ما قام به الصديق الدكتور سعيد الزبيدي يسير مع ذلك الركب الكريم الذي جعل التنزيل العزيز موضع درسه  ومناط شغله, وسيد عمله, مفيداً ممن سبقه, ومعولاً على ما قدموه, وهو يشير إلى هذا بإنصاف منهجي حين يقول في القسم الأول: (ولابد لي من الاعتراف بفضل الذين سبقوا في هذا المنحى, وهم كثر, فبهم اقتديت) (ص 12), غير أننا لا نعدم رأيا هنا, وفائدة هناك, وإضافة فيما بينهما, وحق له ذلك, فبعد أن استوت بين يديه الأدوات, وغرف ماشاء له الغرف من المتقدمين, ووضحت لديه الرؤية, أدلى برأيه, وعول على فكره, واجتهاده, ونرى الغالب في مباحث الكتاب الجانب النحوي اللغوي, وليس هذا بغريب على أستاذ خبر النحو العربي قراءة, وفهماً, وتدريساً, وتأليفاً هذه الاعوام المتطاولة, فالتخصص يغلب صاحبه, ويستولي عليه. نراه هنا, ورأيناه فيما سبق عند الجمهرة من المفسرين, ودارسي الكتاب الكريم, حين تبرز تخصصاتهم, وتتقدم الصفوف بين التخصصات الأخرى .
ولعل هناك كلمة أخيرة, هي أقرب إلى الأمنية, وهي خلو قسمي الكتاب من مقدمة نظرية مختصرة تبين معالم المنهج المتبع في هذا الدرس, والخطوات التي سيتعامل بها هذا المنهج مع نصوص الكتاب الكريم وبهذه المقدمة النظرية ستتحقق فائدتان, أولاهما مدى تلاؤم النظرية مع التطبيق, والتزام الباحث الكريم بتفاصيل المنهج الذي ارتضاه لنفسه, وثانيتها فتح الطريق أمام باحثين آخرين, لقي هذا المنهج الذي اقترحه الباحث الكريم استحساناً في نفوسهم واطمئناناً في تفكيرهم, ورغبة في سلوك الطريق الذي افتتحه, ومهد جوانبه الباحث الأول, وهذه من أولى مهمات البحوث المنهجية الرصينة, فلعل هذه (الأمنية) تجد صدى لدى الصديق الدكتور سعيد الزبيدي خدمة للمعرفة ورواجا لهذا المنهج المنتظر, مع الشكر والتقدير لهذا الجهد المبذول, والتتبع الصابر للمصادر الأصلية.

تعليق عبر الفيس بوك