الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

اللغة العربية و آدابها (4/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

في الحلقتين السابقتين تحدثنا عن العلوم الشرعية وأوضحنا كيف استأثرت علوم الشريعة الإسلامية وعلوم اللغة العربية وآدابها بالنصيب الأكبر من النتاج الفكري العماني، ولا غرو في ذلك فتأثير العصر الإسلامي كان لا يزال ساريا منذ عدة قرون. وكذلك استعرضنا لأهم العلماء الذين برزوا في هذه المجالات وخاصةً في علوم القرآن الكريم وتفسيره، وألقينا الضوء على كتاب "التفسير الميسر للقرآن" للشيخ سعيد بن أحمد الكندي وكتاب: مقاليد التنزيل لأبي نبهان الخروصي)، ثم انتقلنا إلى جانب الفقه والعقيدة، وتحدثنا عن التفسير الآخر للقرآن الكريم وهو كتاب (مقاليد التنزيل) للشيخ أبي نبهان الخروصي. وفي هذه الحلقة سنعرّج على اللعة العربية وآدبها في وتأثيرها في الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان.
ثانيا: اللغة العربية و آدابها
تعد اللغة العربية و آدابها مرادفة للعلوم الشرعية، حيث ظهر الكثير من العلماء ممن يجمعون صفة الفقيه و اللغوي في آن واحد، ولا غرابة في ذلك إذ لا يعد العالم فقيها ما لم يكن ذا دراية واسعة بعلوم اللغة ، وسنتطرق هنا للشعر و النثر:

(1)    الشعر ( ميادينه وأغراضه):
 برز في الشطر الثاني من القرن 18و مطلع القرن 19 الميلادي عدد من الشعراء الذين كانت لهم مكانة مرموقة، و طرقوا مختلف مجالات الشعر،وبرعوا أيضا في الشعر الصوفي (الذي يسميه العمانيون شعر السلوك).
أ/ الغزل:
إن من أبرز الشعراء الذين طرقوا هذا المجال المحبب للنفوس الإمام سعيد بن أحمد البوسعيدي، الذي وصفه معاصره المؤرخ ابن رزيق بأنه فصيح اللسان، ناظما للشعر عارفا بمعانيه وبيانه، مميزا بين الشعر البذيء والشعر الحسن، وإذا تحدث لا يمل حديثه إذ أكثره حكم. ومن أروع القصائد التي تنسب إليه قصيدة قال في مطلعها:

يامن هواه أعـزه وأذلنــــــــي
كيف السبيل إلى وصالك دُلّني
وتركتني حـيران صَبًّا هائمــا    
أرعى النجوم وأنت في نوم هني
عاهــدتني ألا تمـيل عـن الهــوى      
وحلفت لي يا غصن أن لا تنثني
           
ب/ المديح:
أخذ المديح اتجاه النزعة التقليدية، فقد كان الشعراء يتوجهون للثناء على الحكام إما رغبة في العوائد المادية المنتظرة، أو تعبيرا عن الامتنان لهم في مواقف معينة، ومن أهم الشعراء الذين طرقوا هذا المجال أبو الأحول سالم بن محمد بن سالم الدرمكي الذي ولد في مدينة إزكي وتوفي على الأرجح في عام 1224هـ/1809م. تولى منصب القضاء في مدينة بركاء في عهد السيد حمد بن الإمام سعيد. وقد أورد ابن رزيق حادثة مؤثرة وقعت للدرمكي، فقد أمر السيد حمد ببناء منزل للدرمكي في بركاء، فلما كمل البناء جهزه بالمؤنة والأثاث، ثم أرسل إلى عائلة الدرمكي ليحضروا إلى بركاء حيث أسكنهم المنزل ـ دون علم رب العائلة ـ  في الوقت الذي طلب من الدرمكي الخروج معه بقصد النزهة، فلما وصلا إلى جوار المنزل قال له حمد: البيت وما فيه لك. فأثر هذا الموقف النبيل في الدرمكي أيما تأثير مما جعله ينشد في مديحه قصيدة أعتبرت من أروع ما قيل في المديح آنذاك قال في مطلعها:
ما بين بابي عين سعنة واليمــن
سوق تباع بها القلوب بلا ثمـــن
تجروا بما احتكروا به وتحكموا
فجواب من يستام منهم لا ولــن

وقد أعجب الشعراء بهذه القصيدة حتى كادوا أن يلقبوا الدرمكي بأبي تمام ، كما سمع بها بعض الأدباء اليمانية فأعجبتهم، إلا أنهم انتقدوا فيها بيتا واحدا فتصدى الشيخ أبو نبهان للرد على ذلك الانتقاد موضحا صواب ما قصده الشاعر. ونسج عدد من شعراء عمان على منوال قصيدة الدرمكي، ومنهم سليمان بن أحمد المفضل النزوي، والشاعر ناصر بن محمد بن سليمان الخروصي السمائلي الذي عارضها بقصيدة يقول في مستهلها:
إن الهنا وافاك يا هذا الزمـــــن
أنعم به ما الليل فيك لنا سكــــن
والبس برود الفخر حتى يوم ما
بالفوز يقضي بين أهلك والغبـن

كما عارضها ابن رزيق بقصيدة يقول في مطلعها:
لسكينة في قلب عاشقها سكـــن
ومحبها من فرط حب ما سكـن
لقد نظم الدرمكي قصائد في مجالات مختلفة وأغراض متعددة من الشعر، إلا أنه تميز على وجه الخصوص في المديح ، وأشهر مدائحه على الإطلاق ما ذكرناه آنفا من مدحه للسيد حمد، حتى بلغت قصيدته تلك من الشهرة أن كثير من الأدباء ومتذوقي الشعر لا يكادون يعلمون شيئا آخر عن هذا الشاعر سواها.

ج/ الرثاء:
وهو من الأغراض التقليدية في الشعر العربي، و قد طرق معظم الشعراء العمانيين هذا النوع ، فمن ذلك رثاء الإمام سعيد ولده السيد حمد الذي مات بالجدري في عام 1206هـ/ 1792م، قائلا في مطلع إحدى قصائده:
وافـى حـمامك يا حبـيبي بالعجــل   
 نــار تلهـب في ضمـيري تشتعل
يا من له شرف وفضل في الورى    
أمسـى وحـيدا مفـردا دون الأهــل

وكان موت حمد قد آلم كثيرا من العمانيين لانتهاجه سياسة التقرب من العامة والخاصة، وقد وصفه حلفاؤه ومعارضوه ـ على حد سواء ـ بأنه كان متواضعا وصبورا، وأنه كان رجل دولة يتخذ قراراته بشجاعة وحسم.  وقد جاءت وفاته مفاجئة إذ لم يمهله مرض الجدري إلا بضعة أيام ، وكان لا يزال في عنفوان شبابه. ولذا فلا عجب أن تكون جنازته حاشدة مهيبة، وقد وصفها ابن رزيق أنه مشى خلفها عالم كثير من مسلم وذمي، وأنه لم يشهد نعشا مشت خلفه الناس كما مشت خلف ذلك النعش.

د/ الإخوانيات:
وهي مراسلات شعرية متعددة الأغراض في الجانب الاجتماعي كالتهاني والالتماس وتقريظ الكتب إلى آخر ذلك. ومن بين نماذج هذا النوع من الشعر الالتماس الذي رمز إليه الإمام سعيد بن أحمد في مخاطبته لأخيه السيد سلطان قائلا:
إذا شحـت الخضـراء بالوبل فالتـمس    
تجد جود سلطان على الناس كالمطر
فـإن عَــزَّ مطلـوبي فليـس شماتــــة    
وإن حصل المطلوب فالفوز بالظفــر

ويدخل في إطار الإخوانيات المحادثات الشعرية الشفهية ، ومن أمثلتها القصيدة التي نظمها الشيخ أبو نبهان والشيخ سعيد بن محمد بن راشد الخروصي  في ذكر أئمة بني خروص، وهي حادثة طريفة، إذ بينما كان الشيخان يتهيئان للوضوء لصلاة العصر بادر الشيخ أبو نبهان بإنشاد شطر بيت من الشعر،
قال فيه:              أئــمتـــنا لهــــم كــل الفضــائــــــــل
 ثم قال للشيخ سعيد: أكملْ
فقال الشيخ سعيد:    وإن لـهـــم علــى النـــاس الـطـــوائل
فقال أبو نبهان:       وكل النـــاس كـــان لنــــــا قـديمـــــا
فقال الشيخ سعيد:    وقــد كنــــا جـــــبالا فــي الــــزلازل
فقال أبو نبهان:       ومَــنْ في الأرض مثل بني خروص
فقال الشيخ سعيد:    أقـــامـــوا العــدل بالقضـب القواصل
فقال أبو نبهان:       ملــــوك الجـــاهليــــة أولـونــــــــــا
فقال الشيخ سعيد:    وفـــي الإســــلام قــــد ســـدنا القبائل
وهكذا استمرا في سجالهما الشعري الذي بلغ أربعة وعشرين بيتا، وذلك بشكل مرتجل مما يعبر عن سرعة بديهيتهما وقدرتهما الشعرية.

هـ / الشعر الديني:
تعددت أغراض الشعر الديني ما بين نصح وإرشاد وأسئلة وأجوبة فقهيـة وأغراض أخرى، ومن بين النماذج على هذا النوع ما ذكره الدرمكي في منافع سور القرآن الكريم و في تفسير أسماء الله الحسنى في أرجوزة يقول في مطلعها:
فالله اسم أصله الإلـــــــــه
ولا أرى سمي به إلا هـــو
بل حذفوا الهمزة فاستقاما
وأبدلــوه ألـِفـا ولامــــــــا
ومن الشعراء الذين طرقوا هذا الجانب السيد هلال بن الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، وقد قال في مطلع إحدى قصائده:
قناة الهدى والدين غادرها الكسر
وسيف التقى أعوزه النصــــــر
وكـم أربُعٍ مـن الديـن قـد عفــت
بها منه قـدما طـالما خيم الفخـــر

وله عدة أبيات في بيان السور الموصولة بالبسملة قال فيها:
وخـــص بالوصــل ســبع ثم واحدة
أضحت تفاصيلها بين الورى شمسا
وهــن فاتحة "كهف" "سبا" "قمـر"
"أنعــام" "أنبيـــاء" مـا بـها خلســـا
و"فاطــر" ثم إن أعــددت "قارعة"
فعدها لك عن كيد الورى حرســــا

وممن يشار إليهم بالبنان في هذا المجال الشيخ الرئيس أبو نبهان الذي يندرج معظم شعره في الجانب الديني لا سيما في الإلهيات والسلوكيات، وله قصائد فقهية وتربوية، ومن الأمثلة على أشعاره قصيدة يقول فيها:
ألا إننـي أنسـى الأسى من إساءتي
وإن لنفس الأنـس نفس الأسى أسى
بليـت بنفـسي والـهـوى ثـم بالدنــى
وهــن بلايــا من لنفس البـلا بلـــى
جوامــع جــهل جــامعـات بجهلنــا
لكل جـهول جـاهل بالجـوى جـوى

ومما قاله في تسبيح الله عزوجل وتنزيهه:
سبحــان مــن شهـــد الوجــــود بجــــوده
ووجــــوده سـبحــــانـــه سـبحـــــــانـــــا
سبحـــــان المــــلك الذي مـــلك الـــورى
والمـــــلك والملكــــــوت والأكــــــوانـــا
سبحان من نصب الصوى لأولـي النهـى
علمـــــا يــــدل علـــــى الصــفات عـيانـا
وهي أبيات من قصيدته النونية، تبين لنا تمتع الشيخ بنفس طويل، و استخدامه لبعض الصور الجمالية والمحسنات البديعية.

تعليق عبر الفيس بوك