أ.د/ إيمان الكيلاني لـ "الرؤية": العولمة تريدنا شعوبا بلا ذاكرة وموجةُ (اللبْنَنَة) تجتاح الإعلام وتستهدف تمييع اللغة

o    العولمة تريدنا شعوبا بلا ذاكرة تاريخية
o    إحلال العامية محل الفصيحة بداية لإدخال الأمة في فوضى لغوية.
o    الإعلام المرئي والمسموع هدفه الإفساد اللغوي الذي يتبعه فساد خُلقي.
o    لغة العصر والخطاب الإعلاميّ اليوميّ لغة خضوع بالقول يتبعه خنوع.
o    موجةُ (اللبْنَنة) تجتاح وسائل الإعلام والمذيعات يستهدفن تمييع اللغة وتفصيعها.
o    لهجات وسائل الإعلام العربية أقرب إلى السريانية والكنعانية والأمريكية وتستهدف تمييع الأمة ثم تضييعها
o    اللغة العربية فريدة وترتبط بكتاب مقدّس ولها مليون ونصف مخطوطة متناثرة في المتاحف الدولية.
 
..............................................................
أ.د/ إيمان محمد أمين خضر الكيلاني تنتسب إلى الأسرة الكيلانية الحسنية في المملكة الأردنية الهاشمية وهي أستاذ مشارك وأستاذ اللسانيات الحديثة بالجامعة الهاشمية، ومن أهم كتبها الصادرة:" الزيادة بين التركيب والدلالة في خطب العصر الأموي في ضوء النظرية التوليدية التحويلية – دار عمار، 2003م، و"دور المعنى في توجيه القاعدة النحوية من خلال كتب معاني القرآن – دار وائل 2002م"، "بدر شاكر السياب – دراسة أسلوبية لشعره – دار وائل 2007م .
وشاركت في العديد من المؤتمرات الدولية الاختصاصية، ومن أهمها: مؤتمر “اللسانيات والأدب”، ومؤتمرات مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومن أهم بحوثها المنشورة: "الاحتجاج بلغة كنانة و هذيل في ضوء صحيفة ابي نصر الفارابي" وأدب تزفين (ترقيص) بني هاشم أولادهم في الجاهلية وصدر الإسلام" و"التهويدة بين شاؤول تشيرنخوفسكي وهند بنت عتبة" : دراسة مقارنة في المضمون الشعري وأثره" و"ملامح من الغربة السياسية في شعر الشريف الرضي"، وظاهرة تعدد الأوجه الإعرابية، أسبابها وحلول مقترحة" والتقية في شعر الشريف الرضي والعباس بن الأحنف، دراسة في ضوء الأسلوبية الشعرية المقارنة"، و"ثنائية النور والظلام في سورة النور، دراسة أسلوبية دلالية" و"لغة الاغتراب في شعر الرضي، دراسة في ضوء الأسلوبية الشعرية التطبيقية" و"ثنائية النور والظلام في سورة النور، دراسة أسلوبية دلالية" و"المعوذتان" دراسة أسلوبية"، و"انزياح الحركة الإعرابية في بعض الأساليب النحوية"، و"الزيادة بين التركيب والدلالة في خطب العصر الأموي في ضوء النظرية التوليدية التحويلية"، و"ظاهرة الهمزة في قراءة ورش عن نافع"، و"دلالة ترتيب الجملة في خطب العصر الأموي"، و"ظاهرة المد والياء: فتحها وحذفها في قراءة ” ورش عن نافع"، و"الإدغام والتفخيم والإمالة في قراءة” ورش عن نافع”، دراسة فنولوجية تحليلية"... وقد التقيناها ودار الحوار التالي...

بدأت ظاهرة "التحوّل من الفصيحة إلى العامية" تبزغ وتتوسع في الأوساط الثقافية، ووسائل الإعلام العربيّة.. فهل هناك تأثيرات سلبيّة لهذه الظاهرة؟ وكيف يمكن مواجهتها؟ وهل من خطورة جِدُّ متحققة في المستقبل على اللغة الفصيحة؟

ليس من مشكلة في أن تستعمل العامية في حياتنا اليومية، فقد كانت دوماً موجودة بجانب الفصيحة، وإن كان ينبغي لنا أن ننحو في عاميتنا نحوًا يقربها من الفصيحة، سواء على صعيد الأصوات أو الألفاظ، وذلك بنطق الأصوات الثمانية والعشرين صحيحة كما في الفصيحة،  فلا نبدل الذال زيناً، ولا ننطق الراء المفخمة مرققة، ونقلبُ الضاد دالاً أو ظاءً، والقاف همزةً، والثاء تاءً أو سيناً ،... وهكذا دواليك؛ وبذلك  نضيق الفجوة بين العامية والفصيحة، فاذا ما أردنا أن نقرأ القرآن أو نقرأ شيئاً  بالفصيحة كان علينا أهون.
غير أن المشكلة العويصة حقاً في أن نتحول في الأوساط الثقافية، سواء التعليمية أو الإعلامية إلى الخطاب بالعامية، فنحن اليوم نشهد ظاهرة أُسميها (اللبننة) وهي موجة بدأت تجتاح العام العربي في وسائل الإعلام العربية المختلفة من المحيط إلى الخليج، فقد بدأت تظهر عندنا مواصفات جديدة للمذيعة المتألقة، وهي غالباً تميل الى تمييع اللغة وتفصيعها؛ ذلك أن العربية الفصيحة لغة فرسان وأحرار لا تصلح البتة لمواقف التطعج والتميع والخضوع في القول، والفصيحة شريفة لا يلين عنانها إلا لأحرار الناس وأشرافهم، ولما كانت حاجة العالم الحديث الذي يريد أن ينصهر في بوتقة العولمة يصنع نموذجاً إعلامياً مماثلاً تماماً في مظهره وطريقته وهدفه للنموذج الغربي- كان الأمثل لهؤلاء أن يصنعوا نموذجاً عربياً ممسوخاً  مبتدعاً من لهجات عربية ممجوجة سطحية مختلقة هي أقرب إلى السريانية والكنعانية والأمريكية منها إلى  العربية، وهي ظاهرة خطيرة لأن الإعلام المهيمن اليوم على الثقافة هو المرئي المسموع، والتشكيل اللغوي الأول لكفاية الإنسان إنما يكون بالسماع، فإذا ألح الإعلام على أسماعنا بتلك العامية المبتذلة فلن تمتلىء كفايتنا بالفصيحة النموذجية، ويترتب على ذلك بالضرورة أن نعجز عن الأداء بلسان عربي مبين؛ لأن كل كفايتنا ممتلئة بقواعد تلك اللغة المختلقة العامية التي لا تصلح بحال لأن تكون لغة ثقافة، وذلك سيسهم حتما بتوسيع الفجوة بين الإنسان العربي ولغته الفصيحة؛ ويترتب على تلك الظاهرة تمييع الأمة ثم تضييعها، ابتداءً من السلوك اللغوي وانتهاءً بالسلوكيات الأخرى. وإذا جاء النهي في القرآن الكريم لنساء آل البيت عن الخضوع في القول - وهن من هن من الحصانة والشرف - فكيف إذا صارت لغة العصر، والخطاب اليومي لغة خضوع بالقول يتبعه خنوع؟ لغة وطريقة إنما هدفها هو الإفساد اللغوي الذي يتبعه فساد خُلقي .

لاشك أنّ "تسونامي" العولمة اجتاح العالم العربيّ من محيطه إلى خليجه وتعرَّضت اللغة العربية بدورها إلى ريح عاصف أسقطت الكثير من الثوابت..  فمادور الرضوخ لمتطلبات واشتراطات العولمة بالتحوُّل من اللغة الفصيحة إلى اللهجات العامية؟

إن الدعوة إلى إحلال العامية محل الفصيحة في المواقف الثقافية والإعلامية ليست بالبريئة حتماً، إنما هي مرحلة لإدخال الأمة في فوضى لغوية، فمعلوم أن في كل بلد عربي بدل اللهجة لهجات وبدل العامية عاميات، فإذا فتحنا باب اعتماد المنهج الوصفي بحذافيره الذي يعتمده الغرب في التقعيد للغته المحكية، فإن ذلك سيسلمنا حتماً إلى فوضى، حيث ستتعدد اللهجات في كل بلد، ناهيك عن تعددها في كل الدول العربية، وإذا كتب كل بلهجته، بل بلهجاته، فسينقطع حبل التواصل بيننا، وعندها تفقد العربية وظيفتها الأولى ألا وهي التواصل لكي وسنحتاج لنتفاهم إلى بديل للفصيحة التي دوماً كانت تجمعنا،  وعند ذلك سيأتي الحل بأن نتحول إلى لغة علمية موحدة وبالتأكيد لن تكون إلا اللغة الإنجليزية، لا لعظمها وقوتها؛ بل لأنها لغة المهيمن سياسياً وعسكرياً، وعندها سنتحول أيضاً من النظام الألفبائي إلى نظام للحروف اللاتينية في اللغة الثقافية، وسنجد أنفسنا إزاء ذاك منعزلين عن تراثنا الهائل العظيم المكتوب بالفصيحة، وسنجد أنفسنا غرباء عن ثقافتنا، كما حدث للأتراك، والماليزيين، والأندنوسيين، حين أجبروا على التحول نطقاً وكتابة عن العربية إلى اللاتينية، وهذا هو الهدف الأساس الذي تسعى إليه الدول الكبرى من أجل إدخالنا في موجة العولمة خاليي الوفاض من كل مقومات وجودنا التراثي والثقافي والديني والأخلاقي وغيرها، إنها تريدنا بلا ذاكرة تاريخية.

تعلو الأصوات وتخفت بين الفينة والأخرى في البلدان العربية إلى اعتماد (العامية المحلية) كلغة خطاب ىيومي ورسمي وتعليمي أيضا، فما حجّة أولئك الداعين إلى العامية على حساب الفصيحة؟    

إنما حجتهم أنهم يدَّعون أن العربية لغة مائتة، وأن العامية هي اللغة الحية، وينطلقون من فهمهم لفكرة حياة اللغة وموتها من استعمالها في الحياة اليومية للتواصل، وأقول لأولئك :إن جاز للغات الأوروبية أن تعد ميتة كل عشرين سنة، ويسمح لها بالتجدد على ألسنة الناس في الشارع، فإن لأولئك ظروفهم، إذ ينطلقون من فكرة تمجيد الفرد في كل زمان ومكان، بل أحياناً تقديسه، وهم إنما يفعلون ذلك ردة فعل حادة على العصر الكلاسيكي الملكي الكنسي في أوروبا.
أما نحن فنقدس الله وحده، ونقدس كلامه الذي نزل بلساننا العربي المبين؛ لذا  فإن لغاتهم تلك ليس لها تلك الخصوصية التي للعربية، فهي لا ترتبط عندهم بالكتاب المقدس؟
ثم إن العربية الفصيحة لغة ضاربة في عمق التاريخ تراكمية، لها إرث شعري وثقافي وعلمي، يمتد على مدى ألفي سنة، كتبت بها علوم وفنون عبر العصور خلدتها، بل وكانت أساساَ قامت عليه الثورة العلمية والنهضة الأوروبية الحديثة، وليس من لغة أمة على وجه الأرض لها إرث من المخطوطات تصل إلى المليون ونصف تقريبا موزعة في متاحف العالم كما للعربية وأهلها.
ثم إن العربية الشمالية، لغة قريش نضجت قبل ما لا يقل عن الخمسمائة سنة صرفياً ونحوياً وصوتياً وبلاغياً ومعجمياَ، فلما نزل القرآن الكريم ثبتها في القمة، فجاء القرآن معجزاً في فصاحته وبيانه وأحكامه - للعرب الذين كانوا يقدسون اللغة، ويرونها قمة الرقي الفكري للإنسان، حتى إنهم كانوا قبل نزول القرآن يحفظون الشعر، ويروونه أبناءهم، ويكتبون المعلقات بماء من ذهب تعلق على أستار الكعبة ،وذلك أمر قد ثبت علمياً، إذ اكتشفت في سبأ قصائد مكتوبة بالعربية الجنوبية بماء من ذهب على الحرير .
بل إن الله - عز وجل - تكريماً لهذه اللغة وأهلها، وإعلاءً من شأن اللسان العربي المبين يؤكد غير مرة في كتابه العزيز على عروبة هذا اللسان، بل ويجعل التعبد به بلفظه العربي فرضاً لا اختياراً، ومن هنا خصه من بين كل الكتب السماوية بالحفظ منه تعالى، في حين أوكل الكتب السابقة الى أهلها يحفظونها، فالمسلم مهما كان عرقه يجب أن يعبد الله في صلاته باللسان العربي المبين وذلك تكريم، وأي تكريم للعربية وأهلها، إذ لم يرتض رب العزة والجلالة  بديلاً لها من لغات الدنيا لعبادته، إنه الكامل الذي اختار من اللغات لتمجيده أكملها.
وإن صلاة يصلي بها مليار ونصف إنسان يومياً خمس مرات في اليوم، ويدعون بها أيضاً من الأثر، وتخطب بها خطبتا الجمعة وغيرها، ويستعملها الأدباء والشعراء والمخلصون من أبناء الثقافة العربية في الأوساط الثقافية والعلمية، ويفهمها العامي والعالم - لا يجوز بحال أن تحسب ميتة، بل هي حية، ولكنهم يريدون لها أن تموت، وهنا أضرب مثلين من حياتنا المعاصرة لتجربتين:
الأولى: تجربة اللغة العبرية التي ماتت منذ أكثر من 2500 سنة، وبقيت حكراً بمعجمها الضئيل على فئة قليلة من رجال الدين والحاخامات اليهود، لإنها اللغة التي كتبت بها التوراة، ولما بدأت فكرة الصهيونية بإيجاد وطن لليهود، فإن أول ما فعلوه إحياء العبرية وذلك باعتبارها لغة دينية، وليبحثوا لهم عما يجمعهم على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم.
والطريف أنه في المرتين اللتين أحييت فيهما العبرية: المرحلة الأندلسية، والعصر الحديث، اعتمدوا على العلوم اللغوية والأدبية العربية، واعتمدوا معجمياً على لسان العرب في إيجاد ألفاظ عبرية ما كانت يوما وما كان لها أن تكون لولا العربية الفصيحة فولدت العبرية من رحم العربية، وكتب شعراء الصهاينة بالعبرية المولدة ولقنوها أبناءهم باعتبارها لغة مقدسة، ثم جعلوها لغة الإعلام والثقافة والعلم فأحيوا  لغة ميتة.
أما الثانية: فتجربة العربية القديمة الحية العريقة التي تجمع تقريباً مليار عربي، يجمعهم دم واحد وثقافة واحدة ومصير واحد ودين واحد، ثم تتعالى الأصوات من هنا وهناك، ويحمل بعض المغرضين معاولهم ليهدموا صرح العربية وينادون بوأدها وهي حية ترزق، مازالت تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، إنما يحاولون قتلها بعزلها عن العلم والثقافة والإعلام. وبعد، فكيف يحكم على اللغة التي تحيي غيرها بأنها ميتة؟ وهل يمكن لميت أن يحيي ميتاً؟

بعيدا عن التنظير، والأدبيات التأريخية لابد من البحث عن حلول واقعية وتطبيقية؟ فما الحلول التي تقترحينها لدعم اللغة العربية الفصيحة وبسط نفوذها في سائر المواقف وكيف نحافظ عليها ونداوم على إحيائها؟
أهمها الحلول - من وجهة نظري – تنطلق من عدّة رؤى أهمها:
أولا - توعية العربي بأهمية اللغة الفصيحة وعظمتها ودورها الحضاري والتاريخي، وتلقينه ذلك منذ نعومة أظفاره وتعزيز صلته بها من خلال تعليمه وتحفيظه للنماذج العليا منها، ليتولّد عنده الشعور بالفخر والاعتزاز بلغته وذاته وحضارته.
ثانيا - استصدار قرار سياسي ملزم بتفعيل القانون الذي ينص على أن العربية هي لغة الدولة الرسمية، وذلك بإشاعتها إعلامياَ، وفرض الفصيحة في الإعلانات المكتوبة والمنطوقة، وتعريب اللافتات على المحال التجارية، وتعيين المذيعين والمذيعات التي يتقنون الفصيحة.
ثالثا - إجبار منتجي برامج الأطفال وأفلامهم على استعمال الفصيحة، وإلزامهم بألا تعرض حتى تدرسها لجنة من اللغوين المتخصصين.
رابعا - إلزام أساتذة المدارس والجامعات على شرح المادة العلمية بالفصيحة، وكذلك مناقشة الطلاب بها، إذ لاحياة للغة إلا بجعلها لغة للعلم كماهي لغة للأدب.
خامسا - إعادة النظر في طريقة تدريس النحو العربي، وذلك بغربلته مما علق به من أثر الفلسفة اليونانية، ومحاولة وصفه بطريقة تيسر على الطالب تعلمه واستعماله، بعيداً عن التقدير والتأويل والتعقيد، مما يقرب اللغة من أبنائها.

تعليق عبر الفيس بوك