قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

دور الإعلام الإسرائيلي في تعزيز (الأنا) الصهيونيّة (4)

أمين دراوشة – أديب وناقد - رام الله – فلسطين


في هذه الحلقة السابقة رأينا من خلال رواية "أراضٍ للتنزّه" للكاتب الإسرائيليّ "عوز شيلاح" كيف تتم عملية (تطويع العلوم) في تزييف الوعي لخدمة الأهداف الصهيونية، وفي هذه الحلقة سوف نتناول من خلال الرواية ذاتها دور الإعلام الإسرائيلي في تعزيز (الأنا) الصهيونيّة.
لم يكتف الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن بتدمير الأرض والاستيلاء عليها، بل عملوا على سحق الفلسطينيين معنويا وجسديا، ففي شذرة (مشتبه بهم) يحدّثنا شيلاح عن "التصفية الجسدية تصاحبها سياسة "تصفية" للمصطلح الإعلامي الذي يسبقها، أو يرافق حدوثها، أو يتلوها ليؤكد صوابيتها أو خطأها في اعتذاريه مكشوفة" ـ (الشيخ، ص111). وتشير الشذرة إلى أن إذاعة الجيش كانت تعلن موت "سكان محليين" في بداية الانتفاضة 1987، وعندما ازداد عدد القتلى بسبب دخول فرق الموت السرّية للعمل، كانت الإذاعة تشير إلى مقتل "محليين مطلوبين" وبسبب حدوث حالات قتل فيها أناس أبرياء، تم تحديث المصطلح إلى "سكان محليين مشتبه بكونهم مطلوبين"، وبعد استعمال مصطلح "مشتبه بهم على ما يبدو لوصف المسؤولين الإسرائيليين المرتشين، حدّث موظفو الإذاعة مصطلحاتهم أيضا واستخدموا في الأخبار مصطلح مقتل رجال "مشتبه بكونهم، على ما يبدو محليين".
يمارس الكاتب الإسرائيلي عوز شيلاح من خلال روايته "أراضٍ للتنزّه" نقده اللاذع للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وأخطائها القاتلة بحقّ الشعب الفلسطينيّ، ومحاولة تبرير ذلك للعالم الحر، لتسويق سياساتها القمعية والعنيفة ضد الشعب الفلسطيني عبر الإعلام، لذلك نراه في شذرة (إدراك) ينتقد المؤسسة الإعلامية الرسمية بقوة، لسيطرة المؤسسة العسكرية عليها من أجل تضليل الرأي العام العالمي أو المحلي، لدرجة أن المجتمع يأخذ في تصديق الكذب لوفرته، حتى أن المذيع نفسه، والذي "كان طيلة المساء يذيع لمستمعيه أن "جسر برعام"، الواصل بين القطمون وتلبيوت، قد انهار" ـ (ص54)، تعرض لحادث سير أثناء مروره على الجسر، فهو لم يدرك أين الحقيقة من الكذب فيما يذيع.
وفي نقد لاذع من جديد للمؤسسة الإعلامية، يتناول الكاتب قصة أحد الصحفيين الذين نجحوا في عملهم فارتقى إلى منصب محرر في مجلة مرموقة. ولكنه يستقيل من عمله ويترك إسرائيل بحثا عن ملجأ، ويسافر إلى باريس ليعمل نادلا في أحد المقاهي. وعن ذلك يقول الصحفي في رسالة استقالته إنه أدرك أنه لا يعمل لخدمة القراء، "بل لخدمة كبار المعلنين، والعاملين في العقارات الذين يزودون المجلة بالجزء الأكبر من دخلها" ـ (ص63)، وارتأى من جاء محله والمدير عدم نشر رسالة الاستقالة.
لقد وجد الكاتب نفسه في تناقض مرّ ومخالف لطبيعته الإنسانية، فلم يعد يستطيع تحمّل ما يرتكب باسمه من جرائم، فقرر مغادرة البلد. وهذا ما تشي به شذراته، لأنه لو لم يغادر البلد، فسوف يصاب باليأس والإحباط ويقدم على الانتحار. وهو ما تناوله الكاتب في شذرة (قاعدة الانتحار).
والانتحار ظاهرة مهمة يعاني منها الإسرائيليون، لذالك تحاول السلطات إخفاء المعلومات حول ذلك بمساعدة وسائل الإعلام، وبالذات التستر على حوادث الانتحار في الجيش. والوفيات من حالات الانتحار تنشر في وسائل الإعلام على أنها حدثت بسبب مرض عضال. ويقول المؤلف إنه: "مع بلوغ سنّ الخامسة والعشرين، فإن كل إسرائيلي يكون قد عرف، على الأقل، نوعين من هذه الوفيات غير الموثقة" ـ (ص30).
وقضايا الانتحار والأمراض النفسية والعصبية التي يعاني منها أفراد الجيش الإسرائيلي، عولجت بكثرة في الأدب الإسرائيلي، ما يدلّ على أنها ظاهرة خطيرة، تهدّد مؤسسة الجيش. ونحن نجد أنّ أحد الجنود الإسرائيليين في “ابتسامة الجدي”، يقدم على الانتحار، فقد قام الجندي شاغاي من وحدة جولاني، بعد أن شارك في "عملية انتقامية في لبنان ـ و ـ قتل صبيا.."، (غروسمان، ص137) بالإقدام على قتل نفسه خلال إجازته.
وسيجيب كاتسمان بطل رواية غروسمان على أسئلة لموشيه ديان، بأنه متعب ومجهد من الحرب "من جوّ الموت الذي يغلف كل شيء"، بعد أن حاول بقوة خلال قصفه مدينة قلقيلية أثناء الحرب "تسكين الألم في نفسه، الألم الذي ما زال يسكنه حتى الآن"، وهو يقول لديان: "لم أعد احتمل المزيد من الحرب. من الدمار. والقتل". (غروسمان، ص283)
واقع اليوم طريق الغد
يمكن القول إن النتيجة هي أن الإسرائيليين يعانون ويتعذّبون ويواجهون صعوبات في التأقلم مع طريقة عيشهم القائمة أبدا على الاستعداد للحرب، والتعود على ممارسة الشذوذ النفسي حيث الاستمتاع والشعور باللذة في إحداث الألم للآخر الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي. وقد فشلت الحركة الصهيونية في خلق مجتمع متجانس، يحيا حياة طبيعية ككلّ شعوب العالم، وأوجدت شعباً ترهقه المخاوف والهلوسة من الآخر.
في شذرته (مصاب بالحنين) التي  تعبر عن شخصية الكاتب يقول: "ومنذ أن استقللت طائرة وغادرت إسرائيل محتشدا بتحرر مرّ من الوهم وأمل بالمستقبل، أحنّ الآن إلى زمن ليس بالبعيد، لكنني لم أعرفه أبدا، سابق لوجودي، ولربما، من الأفضل القول، إنه سابق لوجودنا" ـ (ص57). لقد أستطاع أخيرا أن يتحرر من الوهم والسراب، ويعلم أن لا مستقبل له هنا، لأنه يرفض الظلم والقهر، ويبحث عن الأمان، ويرى أن وجوده هنا يعني مشاركته في قمع الشعب الفلسطيني، ما يذكربمقابلة صحفية مع الكاتب الإسرائيلي أ.ب. يهوشواع، يقول فيها: "إنني أخاف من هذا الإحساس بكراهية الذات، لأنني أعرف أنه يمكن أن يستغل ضدنا... إن كراهية الذات مرتبطة هنا دائما بشيء آخر، وبإمكانية أخرى، بإعداد حقائبي والرحيل أو بيهودي في منفاه لن يأتي... لدينا هذا الخوف من وجود المرء في وطنه، لأن الوطن لن يتماشى مع مثالياتنا" ـ (رايوخ، ص267).
لا يستطيع مثقف حقيقي، يؤمن بالعدالة، أن يستمر في استغلال شعب واحتلاله، والمساهمة في قمعه وتعذيبه والتضييق عليه ليهجّر إلى المنافي، لذلك كان الحل الوحيد لدى عوز شيلاح أن يحمل حقائبه ويرحل، معلنا براءته من الاحتلال والمثقفين المستفيدين منه. ويستطيع الإسرائيلي السفر والاستقرار في أي مكان في العالم، أما الفلسطيني فلا يستطيع، وإذا نجح فأنه لا يكفّ عن محاولة العودة إلى بيته القديم، ويؤمن بأن الحق لا يمكن أن يضيع بتقادم الزمن.


 
المصادر والمراجع

1. غروسمان، ديفيد. (1996). "ابتسامة الجدي، ترجمة حسن خضر، اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، القدس.

2. شيلاح، عوز. "أراض للتنزه"، ترجمة د. عبد الرحيم الشيخ، رام الله: مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، ط، 2010.

3. رايوخ ـ جيلا رامراز. العربي في الأدب الإسرائيلي. ترجمة نادية حافظ، وإيهاب صلاح، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000.

تعليق عبر الفيس بوك