(حوض الشّهوات) لـ"محمّد اليحيائي"

من شرنقة الحكايات إلى فراشة السرد

...
...
...

أ.د/ يوسف حطيني – أكاديمي وأديب وناقد فلسطيني


يبدو الروائي العماني محمد اليحيائي في رواية (حوض الشهوات) فلاحاً نشيطاً، نثر بذور حكاياته في خياله الفذّ، فامتدت جذورٌ، ونمت جذوعٌ وتفرّعت أغصانٌ وتفتحت أزهارٌ، وأينعت ثمارٌ، وحين اطمأنّ إلى جمالها وجلالها أعاد خلطها: جذوراً وجذوعاً وأغصاناً وأزهاراً وثماراً، وألقاها أمام قارئه دفعة واحدة.
وحتى يمارس النص زيادة في التمويه لم يضع الروائي عناوين لفصوله، ولم يسمّ سارديه المتعددين، بل لجأ إلى وضع المتلقي أمام اختبار لذة الكشف، باحثاً عن السارد الغائب الكلي العالم، والسارد المشارك الذي يغادر منصة السرد بالموت، والسارد المشارك الذي يبقى شاهداً حتى اللحظة الأخيرة؛ ساعياً إثر ذلك للاستماع إلى صوت حمدان بن مبارك الجد، وصوت زعيمة، وصوت حمدان الابن، وسالم مطر وليلى السليمان، وروز، وغيرهم، وحتى للاستماع إلى صوت رجل الأمن، وهو يسرد المقطعين الثالث والرابع، في أثناء مراقبته سالم مطر المسكون بذكريات الماضي.
*          *          *
تنهض هذه الرواية من حيث البنية الشكلية على سرد تمهيدي عنوانه "وحيداً... قريباً وبعيداً" وسردٍ نهائي عنوانه "وحيداً ... قريباً، بعيداً"، وبينهما ثمانية فصول تطول وتقصر، وتخترقها رواية كتبتها إحدى الشخصيات، ليكون المسرود عنه سارداً تارة، والسارد مسروداً عنه تارة أخرى، وليكون على القارئ أن يجمع شتات حكايات تستمد أحداثها من التاريخ العماني، وتمتد حتى تلامس الحاضر ، وتتوسع دلالة لتشمل تاريخ الأمة العربية برمته، وهي تترجح بين الفكر القومي والوطني والديني.
في "حوض الشهوات" تتناسل الحكايات بعضها من بعض، تتداخل حكايات الحب والحرب، والحياة والموت، والبسطاء وذوي النفوذ:
•    في مفتتح السرد تبدأ حكاية الأمير الباهي، وتتكشف خيوطها عن عاشق يفضّل حبيبته اليابانية على الإمارة نفسها، وتنتهي به الحال إلى حمى تلازمه، وأحبول ماء أصفر يرافقه أينما ذهب، وتمتد لتحكي تاريخ العائلة كلها من الفيصل إلى الوقّاص إلى النهروان الأب زير النساء، إلى الباهية الأخت التي أرادت أن تنأى بابنها الخضر عن أجواء القصر، ذلك الابن الذي كان ثمرة زواج من رجل كان من الممكن أن يكون أميراً لولا عدالة الرصاص التي اجتاحت قصر أبيه على يد المتمردين، ليصبح خليفة بن خليفة بن سلطان بن خليفة أبو بكر القشعمي سليل أمراء لم يعد لهم وجود.
•    ثمة أيضاً حكاية أخرى نتفتح بعد ذلك، وابتداء من الفصل الأول، وتتداخل مع الحكاية الأولى، هي حكاية مبارك بن حمدان الجدّ الذي سرّح الجدة خولة؛ إذ لم يكن جسدها يحتمل غزواته الليلية، ليستبدل بها (روز) هدية الوالي، وليبني لها حوض الشهوات، ذلك الحوض الذي قال إنه مخصص لبناته (خزينة وزعيمة وكريمة)، وروز طبعاً، لأن البحر محرّم على النساء، مثلما هو الحوض محرّم على الرجال، إلا إذا عنّ له ولروز، أن يدخلا إلى ذلك الحوض في غفلة عن أعين الرقباء.. وتحت جناح هذا الجد الإمامي تنشأ روز، وترجو لنفسها زواجاً من أحد ذوي النفوذ بفضل والدها مبارك، ولكن وفاته والظروف التي تبعتها دفعتها إلى الزواج برجل بسيط، وإلى إنجاب سلطان بن مبارك، وحمدان بن مبارك الذي يدرس في القاهرة ليلتقي بأصدقاء الدراسة، وبشكل خاص بسالم مطر وليلى اللذين ستكون لهما حكاية أخرى تمتد عميقاً في تاريخ سكيكرة والجبل الأخضر، وتنتهي بزواجهما ثم سفرهما إلى القاهرة، وبعد أن يعودا يبقيان في الوطن مدة قصيرة، يعتقل خلالها سالم، ثم يسافران إلى لندن، ويعود بعدها سالم إلى الوطن بعدوفاة ليلى، ليهاجر من ثمّ نهائياً إلى الهند.
*          *          *
لقد اهتمّ الروائي محمد اليحيائي في "حوض الشهوات" ببناء شخصياته اهتماماً كبيراً، وأسند إليها أدواراً تتناسب مع اشتراطاتها الفكرية والظرفية، ووزع تلك الشخصيات على سلّم التراتب الاجتماعي والسياسي، فبرزت لديه شخصيات رئيسة فاعلة قادت الحدث، وقادت السرد أيضاً، وبرزت كذلك شخصيات ثانوية تسند مشروع الشخصيات الرئيسة أو تعوّقه، إضافة إلى شخصيات طيفية، ربما تكون من أطراف المجتمع، ظهرت؛ لتقوم بدور ما قد يغيّر مسيرة الحدث إلى حدّ بعيد.
يحضر الأمير الباهي من الزمن البعيد، يحضر مبارك بن حمدان وتحضر معه روز التي كبرت بأسرع مما كبرت زعيمة، ثم تحضر زعيمة ومبارك وسالم مطر، ويحضر آخرون مع هؤلاء ليحتلوا صدارة المشهد تاركين خلفيته للباهية والخضر ، ولسلطان وسعاد وغيرهم، بينما تغيب في زحام السرد أطياف زوان وزوينة وطفلة في الخامسة عشرة (هي أم خليفة) التي سُمعت أنات عذريتها تحت وطأة سيّد القصر، ويغيب الإمام الذي لا يظهر، بل تظهر آثاره وأحلام عودته  وتجلياته التي لا تقاس بتقلبات الأمير الباهي في الخفاء والتجلّي.
*          *          *
فإذا نظرنا إلى جماليات اللغة التي يستعين بها محمد اليحيائي في (حوض الشهوات)، فإننا نجده يستعين بالتنوع، مدركاً أنّ التكرار يسبب الألفة، ويقتل الدهشة، فيقدّم أجزاء حكايته منجّمة، دون أن يعيد موقفاً معيناً، إلا مستخدماً صيغة جديدة، ومضيفاً تفاصيل جديدة للموقف أو الشخصية، فمن حيث استثمار الضمائر المختلفة يصادف القارئ لغة تعتمد على ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب. وإذا كان ضمير الغائب غالباً ومألوفاً في السرد عامة، وضمير المتكلم بشكل أقلّ، فإنّ الروائي يطمئن إلى ضمير المتكلم في كثير من الأحيان ليقدّم شخصياته عن قرب، أو كما ترى نفسها، أو الآخرين من حولها، ويستخدم كذلك صيغة المخاطب، التي لا تستخدم في السرد إلا قليلاً، حتى إنه يجعل المخاطب هو الذات، ويمكن هنا أن نشير إلى النسق السردي التالي الذي يصور هذيانات الأمير الباهي، في لغة تتسم بالتوتر، ويعضدها الإيقاع اللغوي:
"مثلكَ لا يُنسى، تُنسى صوره ولا يُنسى، يُنسى صوته ولا يُنسى، يهال التراب عليه ولا يُنسى، يُنبش قبره وتسرق عظامه وتطحن وتُذرى في عيون الخماسين، شمالاً وجنوباً، جنوباً وشمالاً، ولا يُنسى". ص15
مثل هذا التوتّر اللغوي الذي ينهض في معظم الأحيان على الإيقاع اللغوي نستطيع أن نجده في أنساق لغوية أخرى كثيرة تبدأ منذ السياق الافتتاحي، وتستمر على مساحة الرواية، عبر سرد فيه تكرار، لا يشبه التكرار، ففي كل إعادة إضافة ما، وفي كل إعادة توتر يرقى بموسيقى النص.
*          *          *
في (حوض الشهوات) رؤى فكرية عميقة، ومواقف تمجّد الإنسانية، وتواجه القهر والفساد والإفساد، ولكنّ تلك الرؤى لا تقدّم نفسها بشكل ذهني مباشر، بل تجتهد، وتنجح في تقديم نفسها جمالياً، بحيث لا تبدو مواعظ تفرض نفسها على القارئ. هي إذاً رواية مثقلة بالفكر، مثلما تُثقَل الشجرة الخضراء بالثمار، أي أنّ الأفكار المجرّدة فيها تدخل إلى مختبر الجمال السردي قبل أن تصافح عين القارئ.
أرق اليحيائي في (حوض الشهوات) أرق إنساني ووطني منحاز للإنسان، رافض لاستغلاله، منحاز للوطن، محارِب للفساد والإفساد والقمع الذي يحرم الناس من الكلام. إن اليحيائي لا يقول ذلك مباشرة، ولكن منطق الشخصيات يشفّ عن ذلك، في سخرية مرة تكتنف كثيراً من السياقات السردية.
*         *          *
هكذا بدت لنا رواية "حوض الشهوات" شرنقة تخفي في ثناياها حكايات متداخلة ووقائع تنتمي إلى تواريخ مختلفة، وأخيلة أحلام، ولكنّها عند الدرس والتمحيص تتكشف عن فراشة سردية زاهية الألوان، تعضدها لغة تصويرية بديعة، تقول ما لديها دون أن تجرح براءة السرد وجمالية اللغة.

تعليق عبر الفيس بوك