مناجم الذهب (3)

عائشة البلوشية

جاء يوم الرحيل وحُمِّلت الدواب بالمؤن والزاد الذي كان يغلب عليه طحين البر (القمح) الذي تشتهر به عوابي الظاهرة الممتدة بامتداد البصر، والسح (التمر) والعسل والسمك المجفف (وليس المقصود هنا القاشع، بل نوع صغير من السمك المجفف كانوا يحملونه معهم في أسفارهم، أكبر من سمك الصيمة حجمًا)، واللومي اليابس والقهوة.

وكان شكل القافلة صورة جديدة تنطبع في داخله، مجموعة من الإبل تسير خلف بعضها، وبعض الحمير محملة بجربان السح -(والجربان جمع جراب وهي أكياس تصنع من خوص النخيل وتستخدم لحفظ التمور، بالأخص تلك النوعيات التي تنتج الدبس، وذلك لسهولة تخلله بين فتحاتها)-، ورجال يركبون وآخرون يسيرون راجلين بين الفينة والأخرى، حيث خصصت ناقة هادئة لوالدته، وكان صغيرنا هذا يركب معها في بداية الرحلة، ثم ارتأى قائد القافلة أن يخصه ببعير ليُعلمه ركوب الدواب، وليمرر له رسالة غير منطوقة بأنَّه قد كبر وأصبح رجلاً في سن الخامسة، ولا يجوز له أن يركب برفقة أي شخص مطلقاً، حتى وإن كانت والدته الحبيبة.

وهذا ما بعث في نفسه الزهو رغم الشعور الخفي بالتوجس ورهبة السقوط، وتعمد قائد القافلة - حرصاً وخوفاً عليه- أن يخصه ببعير له عرج خفيف واضح في مشيته، ربما حتى لا يجمح به لسبب أو ﻵخر، فهو ليس على استعداد أن يقف أمام والده ويبلغه أنه فقد ولدا آخر بعد أن فقد ولده البكر (محمد)، وتلته بعدة سنوات ابنته الوحيدة (مثلى)، بسبب الأمراض والأوبئة التي كانت تنتشر حينها، ولا علاج يُخفف من حدتها، أو حتى طبيب يشخصها، فأصبح بعيره الثالث في ترتيب القافلة، تسبقه ناقة والدته، وذلك حتى يطمئن لمسيرها أمام عينه طوال الوقت، ورغم شوقه وتطلعه للقاء والده إلا أن مشاعر الحنين نهشت قلبه عندما تذكر جده -لوالدته- ذلك الشيخ الوقور الذي يُحبه من صميم القلب (راشد)، وجدته الحنون جدًا (غاية)، فقد كان رغم صغر سنه يُدرك كم الحب الذي يخصانه به دونًا عن أقرانه، ﻷنه عندما كان يهرع لزيارتهما برفقة والدته عند باب الصباح، كانا يهشان ويبشان ويوسعان له مكانا بينهما، ويتذكر جيدا ذلك الغوري الذي اكتسى بسواد الفحم -الإبريق النحاسي- في فصل الشتاء البارد عندما يصب له جده كوبا خاصا من الحليب المخلوط بسعتر الجبل الأخضر الذي ينتشر شذاه لدرجة أنَّه كان يحس بطعمه قبل ارتشافه، وجدته التي تخبئ له تحت ركبتها حبة تين أو موز فرض أو بعضا من النبق، وتدسها في يده خفية دون أن يلحظ من حوله ذلك، كيف له أن يترك هذا كله ويرحل؟!.

وعندما أخذت القافلة تعبر بهم منطقة "الجفرة" بدأ في نسيان كل شيء والانصهار مع تلك الامتدادات الفائقة الجمال من أزهار وعشب وأشجار السمر والغاف، وكلما توغلت القافلة في الصحراء كان مأخوذا بتلك الكثبان الرملية العجيبة التي لا يوجد مثلها في العراقي، وبتلك الشجيرات التي تنمو حولها، وكان جدول الرحلة الصحراوية يقضي بأن ترتحل القافلة ليلاً ثم تتوقف للمبيت حتى ارتفاع الشمس بمقدار، وبعدها تعاود المسير مرة أخرى حتى وقت الزوال، وذلك لتفادي درجات الحرارة اللافحة في النهار، وبعدها تبدأ العير في المسير بعد انحدار الشمس وقت العصر وهكذا دواليك، حتى لا تتعب الدواب تحت أشعة الشمس الحارقة وبخاصة أن آبار الماء تبعد عن بعضها مسافات طويلة، ولا يُمكنهم زيادة العبء على الدواب وتحميلها بكميات كبيرة من قرب الماء، لذلك كان يتسنى له الاقتراب من الأعشاب عندما تُناخ الإبل ويتوقفون للراحة وإعداد الطعام بعد ارتفاع الشمس عن مشرقها، فتسنى له التعرف على الكثير من أسماء الأعشاب والشُجيرات البرية، ومنها ما كانت محببة إلى قلبه الصغير، ﻷنه تعرف عليها على أطراف عوابي البر حول العراقي والغبي، كـ"الحماض" الذي كان يستلذ التهام أوراقه الخضراء الناعمة المليئة بعصارة حمضية يعشقها الأطفال، وربما توقف مرات عدة لتأمل تلك الزهور الحمراء القانية التي تتوسط العشبة، لتخفي بذورها بين تلك الأكمام الشفافة، فيألوا على نفسه اقتلاعها ويكتفي بقطف الأوراق، ليترك البذور على أصلها فيأتي موسم ماطر آخر وتخرج مكانها أخرى جديدة، ثم تأتي عشبة "القرينوة" ذات الرائحة الأخاذة بعدها في القائمة، وقد انضمت لقائمته أعشاب أخرى بعد مُضي السنين وتوسع دائرة مَعارفه النباتية، وللعلم فإنَّ كلتا هاتين العشبتين تنبتان بعد هطول المطر، ولكن نتيجة للزحف العمراني اليوم فقد أصبحت قليلة الظهور، وتتواجد على سفوح الجبال تحت أشجار السمر في السيوح.

وفي أحد الأيام وبعد استراحتهم بدأت القافلة في المسير، وكان يتربع بزهو فوق سنام بعيره، وبعد أن أرخى ظلام الليل سدوله، أخذ يتأمل السماء الغامضة، ونجوم لا حصر لها تنتشر على صفحتها بجمال أخاذ، وسمع مسميات لنجوم وأبراج كثيرة لكنه لم يستطع حفظها كلها، والأكيد أنه عرف أنَّ تلك الأجرام اللامعة هي دليلهم في سفرهم ذاك، وهنا تعرف على سماء أخرى غير تلك السماء التي يتأملها فوق سطح المنزل، وهو يجمع حبات الأمبا مع والدته من أمباة المسيكة التي تظلل ذلك البيت الطيني الدافئ، وكأن تلك الأمباة الحنونة تحتضنه بكل ما ومن فيه، كما أنها ليست كسماء عبري التي يصطحبه والده إلى سوقها للتبضع، أو كسماء السليف التي يصطحبه إليها لزيارة صحبه خاصة صديقه سعيد بن بدر، فكم أحب تلك السماء وهو ينظر إليها من بين أرجاء ذلك الحصن ودهاليزه المليئة بالحكايات، حصن السليف المتربع على قمة الجبل، مطلا بهيبة -كما في جميع حصون وقلاع سلطنة عمان- على بلدة السليف ومن الجهة الأخرى على ذلك الوادي المنساب خلال القرية البالغة في الروعة، أخذت جفونه بالتثاقل وهو كمن يطرد الكرى عنهما، كان يرهف السمع بانتباه شديد، فقد كانت الحكايات التي يتبادل أفراد القافلة سردها مُسلية، وتجعل قلبه وعقله عامرا بحب جماليات الأماكن والشخوص، وعندما بدأ حادي العيس في "الونة" بصوته الشجي، ومندوس- ذلك الشخص الذي يقوم بدور الماسحة الضوئية- يعس القافلة جيئة وذهابا، أخذ سلطان النوم يغلب صغيرنا القابع فوق سنام ذلك البعير الأعرج شيئاً فشيئاً، وكيف لطفل في الخامسة أن يقاومه؟ وخصوصا أن لليل الصحراء جو جمالي خاص جدًا، لا يعرفه إلا أنعم الله عليه بتجربة الترحال فيه، فالنسيم العليل الذي يتحد مع شذى العشب وزهور برم السمر ليؤجج الفضاء بروائح ساحرة، ويبدو أن صغر حجمة ووزنه البسيط جعله -دون أن يعي- يتزحلق ببطء شديد مع خطوات خف البعير وعرجه الواضح فوق الرمل الناعم، وعندما وصل مندوس إلى مستوى البعير لم يره مكانه، انتفض رعبًا فلو علم عمه بما حدث لربما قتله في التو دون هواده، فأخذ قلبه يخفق بقوة شديدة لوضع الاحتمالات والردود على أسئلة محتملة قد توجه إليه، فاستعاد شريط الذاكرة ليتذكر أنه قد أركبه البعير بنفسه، لذا فمن المستحيل أن يكونوا قد نسوه في البقعة التي وقفوا يستريحون فيها، ثم إن عمه -بتوصية من والدته- كان شديد الحرص على تفقده قبل انطلاق القافلة، فأين يمكنه أن يكون؟!.

 

(يتبع)..

___________________________

 

توقيع:

"سهر الشوق في العيون الجميلة..

حلم آثر الهوى أن يطيله

وحديث في الحب إن لم نقله..

أوشك الصمت حولنا أن يقوله"

جورج جرداق.