ثيمة الماء تُفجر دينامية الخطاب

قصص سعود البلوشي.. حضور "أصوات البحر" اللحوحة وحكايات مُدن السواحل

 

 الرؤية - محمد علي العوض

احتل "البحر" كاشتغال فضائي مكانة أساسية في الكتابة الإبداعيّة شعرًا ونثرا على مر التاريخ، وتمّ توظيفه في شتى الأجناس الأدبية بوصفه مكوِّناً من مكوّنات العالم الروائي؛ ففي روايات الطيب صالح كان البحر "النيل" مخصّب الحكي، وفضاء تجري فيه الأحداث ويتحكم في تصاعد أنساقها، وأحيانا عاملا مضادا ومساعدا في أحايين أخرى كما في رواية "بندر شاه ضو البيت" و"موسم الهجرة إلى الشمال".. وكذلك تعامل جبرا إبراهيم جبرا في رواية "السفينة" بشكل مباشر مع البحر.

أما في مجموعة "أصوات البحر" للقاص العماني سعود البلوشي، الصادرة من دار بيت الغشام عام 2017؛ فيكاد يشكل "البحر" الثيمة الأساسية التي اتكأت عليها قصص المجموعة، ومركزية أساسية تنسج عبرها كل خيوط السرد ومكوناته.

وإذا اعتبرنا أنّ الكلمة -حقيبة- تحوي تعددًا في المعنى وتغيرا في الدلالات التي يمكن أن تنغلق عليها كلمة معينة فإن كلمة "البحر" التي تزخر بها المجموعة القصصية ليس معناها الحقيقي ماء فحسب، بل تكتسب أكثر من ذلك، ويتسع معناه ليكون أكبر من المعنى الوصفي أو الجغرافي، ليتمظهر كعامل حركة وإلهام، وعامل مساعد/ مصدر حياة وعامل مضاد/ مصدر موت في آن واحد، وعامل منتج للواقع والقيم الإنسانية.

وهو عند البلوشي أكبر من أن يكون ديكورا يزين فضاء الحكي أو صورة فوتوغرافية منسوخة من الواقع إلى العمل الأدبي؛ بل هي نشاط تفكيري يتحكم في مسار الأحداث وطريقة تفكير الشخوص، وشخصية مؤثرة على تدفق نمط السرد بين إحجام وإقدام.. إسهاب وإطناب.. تكثيف ومباشرة؛ لأن "البحر" بوصفه رمزاً من الرموز يشتغل في النص من خلال ارتباطه بكل أجزاء النص.

لذا لا عجب أن تتكرر مفردة "البحر" في مجموعة "أصوات البحر" أكثر من 80 مرة، هذا بخلاف محمولات حقلها المعجمي الأخرى حيث تنزاح المفردة "البحر" إلى ملفوظات سرديّة وحقول دلالية ومعجميّة تُكثف وتُعلي من قيمة هذه الثيمة كـ "الماء، التيّارات، الأمواج، السفينة، النواخدة، الصيّادون، الرمال، الساحل، الشاطئ، الأرصفة، الميناء"..إلخ

يمثل البحر عند البلوشي (أحلاما تمتزج فيها مشاعر متناقضة من البهجة والألم والفرح والحزن والقلق والخوف والتوجس- ص 8) ونموذج للصراع، وأحد وجوه الحياة بنجاحها وفشلها.. حلوها ومرها.. فرحها وحزنها.. ينسج خلاله حكايا مُدن السواحل وقصصا عن بحارة صارعوا أمواجه العاتية التي تدك الصخور دكا قبل أن يقهروها بقواربهم الخشبية الصغير وبمجاديفهم؛ في مقابل بحارة آخرين كانت أجسادهم الفتية لقمة سائغة لوحوش البحر الضارية.

والبحر بأصواته عند الكاتب هو معادل للقلق، تأرجح بين الشك واليقين، النجاة والغرق، التوجُّس، الغرابة، العجز، الجبروت؛ غريم عنيف يسائله البحارة وسكان الشواطئ: (هل ستبعث بأحدنا اليوم- ص9) وربما تجسد البحر – في إطار الكلمة والتحول- أحيانا في صورة تشبيهات واستعارات منغرسة في البنية السياقية للنص، فيصوّره البلوشي نديمًا أليفا وملاذا آمنا يودعونه فلذات أكبادهم: (أيّها البحر الهادي العميق. عندما نودع أطفالنا فيك، كيف ستحميهم؟ - ص9) كيف لا و (... البحر أصل الأشياء، وهو أم عظيمة جدا وحنون، كلنا خرجنا من أحشائها- "ص 12) هو مكان الولادات الجديدة والتحولات والانبعاثات (من بعيد أسمع نداء البحر وأصواته الناهمة تدعوني لكي اغتسل في مياهه وأتطهر من عمر لا يستحق- ص 51) والبحر عنده أيضا يعني الانعتاق من الوحدة وأنيس الشيب حين يفر العمر وتفلت الطفولة الغضة يدها بعيدا عنك (...حولي سبع من حوريات البحر... أجلسنني بمواجهة البحر على كرسي مغطى بشال أخضر حيث بدأ موكب عرسي الأبدي - ص 52)..

سيميائيّة غلاف مجموعة "أصوات البحر القصصية" تمثلت بلوحة تشكيلية التقطتها عدسة زبير البلوشي وتصميم بدر الشكيلي؛ لاسيّما أن تصميم الغلاف في العصر الحديث لم يعد حلي خارجية توشى بها الكتب بقدر ما يساهم في تشكيل تضاريس النص ومؤشر دال على الأبعاد الإيحائية للخطاب الأدبي.. وهو عبارة عن نص بصري، تداخلت عبره الألوان المتراكبة والمتدرجة بين قلعة الصيرة في قريات بصخورها الداكنة ومحيطها الساحلي ذو اللون الرملي المطل على البحر بلونه الأزرق والمنفتح على سماء زرقاء أكثر شفافية؛ مما يخلق دلالات مضاعفة تهيئ المتلقي لتلقي النص وهو على استعداد جمالي ونفسي من نوع خاص.

اختيار البلوشي لعنوان (أصوات البحر) بوصفه عتبة دلالة استراتيجية كان موفقا فقد جاء موجزًا ومكثّفًا، ومنسجمًا مع النص بجذوره الممتدة بين موضوعة المتن الحكائي، وشكّل همزة وصل بين المُرسِل/ المؤلِف وبين المُرسل إليه/ المتلقي؛ ومنحه سلطة القراءة وتفكيك العنوان وتأويله، كما أنه جاء وصفًا صريحًا لمضمون المجموعة، وحقق - بنجاح كبير- الوظيفة الإغرائية التي تدفع القارئ لاقتناء وقراءة الإصدارة. فالمبتدأ شبه الجملة (أصوات البحر) حذف خبره بغرض التشويق واستدعاء التساؤل عمّاهية صفة أصوات البحر.. أهي ضعيفة؟ هامسة؟ هادرة؟ مخيفة؟

كما مثّل عنوانًا لإحدى قصصها التي حوت 14 قصة: (من حكايات البحر، دوائر الحلم، يوم في حياة موظف، تعيب، أحوال جنوب المعمورة، المستشفى، أصوات البحر، اجتماع، مساء البطل الأخير، سراج سوق الظلام، لوعة وقصص أخرى، حسينة، الاجازة، مراكب مبحرة) تقص حكاية السواحل بهدوئها وضجيجها، جمالها وتفردها..

تقف قصة (أصوات البحر) نموذجًا على براعة الوصف عند البلوشي ومعرفته بتقنيات السرد من حوار ومنولوج وارهاص وانتقالات لماحة عبر عنصري المكان والزمن دون إخلال بكورنولوجية القص أو ترهل في عملية البناء السردي. ولأنّ أحداث القصص كانت واقعيّة في أغلب موضوعات المجموعة فقد منح البلوشي -أسوة بالمدرسة الواقعية – الوصف كنمط حكائي مساحة واسعة في زمن خطابه السردي، فالوصف عنده حامل أساسي لقيمة الكتابة، بجانب اضطلاعه بوظائف أكثر أهميّة في بنية النص، كشف من خلالها العوالم السيكولوجية والاجتماعية والمستويات الذهنية لكثير من شخوصه (وتلوذ هي إلى ممارسة هواياتها الأثيرة اليومية.. رسم نساء عاريات ذوات أجنحة- ص "29")، (هنا تتجلى قدرة الله التي لا تستشعرها أنت أيها الجاحد- ص 98)، (نهض من رقدته وتوجه إلى البحر واغتسل وعاد عاريا إلا من نصف إزار يكشف عن مسافة مُحرّمة من الفخذ، وكان جسمه مطرزا بقطرات من الماء اكتسبت لون أشعة الشمس الذهبي، تعمّم ببقية ملابسه وسار أمامي- ص 112)، (أنتظر وجه الشمس المجلي كوجه عروس يتكشف صافيا يزيح عنه رداء الماء البرتقالي الشفاف – ص 80)

نتلمس أيضا تراتبية للأوصاف داخل النصوص، والتراتبية تعني التدرج في الوصف صعودا أو هبوطا فمثلا نقول: (رجل ربعة أبيض الوجه ذو لحية مستديرة) تدرجنا هنا من وصف الجسد إلى الأقل وهو الوجه ثم تدرجنا إلى الأقل من الوجه وهي ميزة اللحية المستديرة (فإذا بها يد رجل كهل، تدفن لحيته الكثة وجهه المنمش، يلف رأسه بمصر- ص30). كما تحاشى القاص الجمود في عملية الوصف؛ وذلك بخلق حركته الخاصة، وتأتي الحركة من تعدد مستويات الزمن وانسيابيتّه.

وأجاد أيضا الوظيفة الواقعية للوصف فقدم الشخصيات والأحداث والأماكن بصورة واقعية وكمعطيات حقيقية، كما في قصة (يوم في حياة موظف - ص 23) و (الإجازة- ص 97).

واتكاء على الوظيفة السردية للوصف زوّد الكاتب، القارئ بالمعرفة اللازمة بالحيّز المكاني، وتكاد تكون منطقة الساحل قريات وقلعة الصيرة تشكل البنية المكانيّة الأساسية في المجموعة؛ وقد أبدع الكاتب في توظيفها في النص ووصفها كما امتدت البنية المكانية في القصص حتى سوق مطرح، المسفاة، قريات، مسقط، السيب، الخوض، خور أمبوكية، قرية السيح الحيل دغمر وغيرها.

بجانب وظيفة الوصف الجمالية على شاكلة جمل ووحدات سردية صغرى (هل تسمع الحوريات، أنها تسرد حكايات النهار: كيف صحت؟ وكيف حلقت فوق هذه اللجة الزرقاء الواسعة؟ - ص 12)، (وقفت أمام البحر ارقب الرفرفة البطيئة لشعر الليل الفاحم على صفحة الماء وهي تتلاشى .... على يساري أثلة يغطي عيدانها الندى الصباحي- ص80) (سرحت عيني في البحر وتراءى لي وجهها يبزغ في الأفق البعيد وينير بضوئه ظلمات روحي التي أحلكها الغياب - ص 81")

تتباين أبعاد وظيفة كتابة القصة عند البلوشي ما بين الاجتماعي والفكري، وتحيلنا قصص على شاكلة يوم في حياة موظف وتعيب واجتماع على الجزء المختص بالأبعاد الاجتماعية، بينما تشي قصص على شاكلة من حكايات البحر وأصوات البحر بالأبعاد الفكرية، وإن كان هذا البعد يتمظهر من خلال بعض الوحدات السردية في القصص الاجتماعية كما في قصة "إجازة" (...صادقت السحب والغيم الماطر، ففي مساء ممطر أبلغت أمي أنني ذاهب إلى ملاقاة الغيم الذي بدأ يترك ذرى الجبل الأسود ويهبط ليصافح ذرى سعف نخيل المسفاة- ص110).

تتسع مستويات المعنى في نصوص المجموعة بمختلف ضروبها لتصبح أكثر من مجرد عبارات متراصة لعينها، واللغة عند البلوشي دينامية تفتح مسارب أخرى للحكي، وتؤدي دوراً في خلق فضاء للسرد يبتعد عن التقريرية والمباشرة والخبري، وهو فضاء يسمح بتعدد مستويات وأبعاد الحكايات، بجانب تمكن البلوشي من نسج فخاخ الجذب والتشويق بلغة شاعرية عالية تباينت ما بين الفصيح والعامية العمانية في بعض النصوص الأخرى.

تعليق عبر الفيس بوك