سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (18)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ – جامعة نزوى

 

قال تعالى في الآية 76 من سورة المائدة: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ۚ وَاللَّـهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ قال تلميذي النجيب: تقدم الضرّ على النفع في هذه الآية، وآيات أُخَر، وتأخر عن النفع في آيات، فما السر وراء هذا التقديم والتأخير؟
فقلت: هذه ملاحظة دقيقة ترصد التعبير القرآني لتستجلي ما وراءه من دلالة، وما يخفى من قصد، فتعال نرصد الآيات التي تقدم فيها الضر على النفع، أو تأخر عنه، ثم نعرض ما قاله العلماء في هذا، وقد نضيف ما نراه.
فمما تقدم به (الضر) على (النفع) ورد في آيات أخر هي:
(1)    ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ﴾. سورة يونس 49.
(2)    ﴿أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾. سورة طه 89.
(3)    ﴿يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾. سورة الحج 13.
(4)    ﴿وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾. سورة الفرقان 3.
(5)    ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا﴾. سورة الفتح 11.
ومما تأخر (الضر) عن (النفع) في الآيات الآتية:
(1)    ﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ﴾. سورة الأعراف 188.
(2)    ﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾. سورة الرعد 16.
(3)    ﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾. سورة سبأ 42.
ونتبع ذلك ما ورد في القرآن الكريم من استعمال فعليهما، فمما تقدم فعل (الضر) على فعل (النفع) ما يأتي:
(1)    ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ﴾. سورة البقرة .102 .
(2)    ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ﴾. سورة يونس 18.
(3)    ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ﴾. سورة الحج 12.
ومما تأخر فعل (الضر) عن فعل (النفع) ما يأتي:
(1)    ﴿قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا﴾. سورة النعام 71.
(2)    ﴿وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ﴾. سورة يونس 106.
(3)    ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾. سورة الأنبياء66.
(4)    ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ﴾. سورة الفرقان 55.
(5)    ﴿أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾. سورة الشعراء73.
ربما ذهب باحث إلى أن استعمال لفظتي (الضّر والنفع) مقترنتين بتقديم أي منهما، في أي سياق لا يحدث "نشازاً في التركيب لا لفظا ولا معنى (1)" ليس دقيقا، على أنه – الباحث نفسه - يناقض نفسه بعد ذلك فيقول: "تقدم النفع على الضر لأن السوابق من الآيات تدعو إلى هذا التركيب... فناسب تقديم النفع (2)". فأياً من رأييه نتبع؟ بلا أدنى تردد سنحتكم إلى ما قيل ثم نشفع ذلك بما نراه مناسبا .
ممن عني بالآيات:" التي تكررت في القرآن وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة أو نقصان، أو تقديم، أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافاً بين الآيتين، أو الآيات التي تكررت من غير زيادة أو نقصان(3)"
تاج القراء أبو القاسم محمود بن حمزة الكرماني (ت505ه) في كتابه (البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان) (4) فقد قال:"إنّ أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضرّ والنفع معا جاء بتقديم لفظ الضرّ على النفع؛ لأن العابد يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا وطمعا في ثوابه ثانيا" (5). ونقض الكرماني قوله هذا حين وجد تقديم النفع على الضرّ فقال: "وحيث تقدم النفع على الضرّ تقدم لسابقة لفظ تضمن نفعاً"(6)
وكرر قوله هذا فقال:" وكذلك ما جاء بلفظ الفعل فلسابقة معنى يتضمن فعلاً"(7). ولم أكتف بما ذكره المحقق بقوله:" وقبل أن أعتزم إخراج الكتاب إلى النور، راجعت كثيراً من كتب التفسير التي عنيت بالمقارنة والبحث؛ كإرشاد العقل السليم لأبي السعود، والكشاف للزمخشري، والبحر المحيط لأبي حيان، والدر اللقيط لتلميذه، وتفسير القرطبي، وتفسير الخازن، ومتشابه القرآن للقاضي عبد الجبا، والعقد الجميل لأكاه باشا ، وغيرها، خشية أن يكون الكرماني قد نقل مسألة هنا، ومسألة هناك، ولفّق من نقوله كتاباً كما يفعل الكثيرون ، فلم أجد ما يشير إلى هذا الظن من قريب ولا من بعيد"(8).
ظاهر كلام المحقق جهد كبير، ولكنه متهافت وباطل إذ كيف ينقل الكرماني (ت505هـ) من أبي السعود (ت951هـ)، ومن الزمخشري (ت538ه) ، ومن أبي حيان (ت745ه) ، ومن القرطبي (ت671ه)، ومن الخازن (ت725ه) ؟ ولاحظ يا ولدي الاضطراب في الترتيب التاريخي.
فأفادني المحقق من حيث لا يدري أن أتحرّى ما أثاره من شك النقل عندي، فطفقت أنظر في كتب عنيت بالقرآن الكريم سبقته : فنظرت في الكتب التي عنيت بلغة القرآن الكريم : مفردات ومعاني، التي سبقت الكرماني لاستجلاء ما قيل في التعبير القرآني، وما وراءه من مزية ارتقت به إلى تفرده وإعجازه ومنها كتب ( معاني القرآن ) فبدأت بـ:
-    معاني القرآن لأبي الحسن الكسائي (ت189هـ).
-    معاني القرآن لأبي زكريا الفراء (ت207هـ).
-    معاني القرآن لأبي الحسن الأخفش الأوسط (ت215هـ).
-    معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج ( ت311هـ).
-    معاني القرآن الكريم لأبي جعفر النحاس (ت338هـ).
فلم أظفر فيها على إشارة أو تعليق بينا ما وراء لفظتي (الضرّ والنفع) تقديما وتأخيراً، اسماً وردا أم فعلاً، وطفقت أستعين بكتب التفسير التي سبقت الكرماني أيضا، فكان منها:
-    جامع البيان في تأويل القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ).
-    التبيان في تفسير القرآن لأبي الحسن الطوسي (ت460هـ).
فلم أجد فيهما ما يكشف سر تقديم هاتين اللفظتين أو تأخيرهما، وما يترتب على التقديم والتأخير من ملحظ بياني.
ووقفت على:
    مفردات غريب القرآن للراغب الأصفهاني (ت502ه) فما حظيت به على ما أنا بصدده. أما من جاء بعد الكرماني من المفسرين الذين أفادوا من رؤية الكرماني التي عرضناها - ولا شك في هذا وإن لم يشيروا إليه - ومنهم:
    البحر المحيط في التفسير لأبي حيان الأندلسي (ت745ه) وجاء فيه:
"وقدم ههنا النفع على الضرّ لأنه تقدم (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل...) (9)، فقدم الهداية على الضلال وبعده (لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ...)(10)، فناسب تقديم النفع، وقدم الضرّ في (يونس) على الأصل لأن العبادة لله تكون خوفا من عقابه أولاً ثم طمعا في ثوابه... فإذا تقدم تقدم النفع فلسابقة لفظ تضمنه، وأيضا في (يونس) موافقة ما قبلها ففيها (ما لا يضرّهم ولا ينفعهم) (وما لا ينفعنا ولا يضرنا)... وفي (يونس) (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)...، وفي (الأنبياء) قال: (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم) ...، وفي (الفرقان) (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم)... ، وهذا النوع من لطائف القرآن العظيم "(11).
    أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (ت791ه)، فقال في تفسيره الآية (76) من سورة المائدة موضع السؤال:
"وإنما قدّم الضرّ لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع "(12)، وهنا يحدد البيضاوي توجيها ً منتزعاً من فكرة الكرماني وإن اختلف اللفظ.
إن البحث في أسرار (التقديم والتأخير) التي انطلق منها الكرماني متقدم عليه، فقد فتح سيبويه (ت نحو180ه) الكلام فيه فقال: "كأنهم – أي العرب- إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم "(13) ، وقد تلقف علماء النحو والبلاغة هذا الملحظ البياني فناقشوه مؤيدين ، ومعارضين (14). وقد فتح الكرماني باباً واسعا للنظر في أسرار التقديم والتأخير في أمثلته التي وقفنا عندها.
وندعو إلى تأمل آخر في:
تقديم (الأرض على السموات أو السماء) إذ ورد (13) موضعاً في إحدى عشرة سورة، وتأخير (الأرض عن السموات أو السماء) في (203) مواضع في ستين سورة.
تقديم (الإنس على الجن) في سبعة مواضع في أربع سور، وتأخير (الإنس عن الجن) في عشرة مواضع في سبع سور.
وغير هذا مثل: تقديم (الشفاعة على العدل)، أو (العدل على الشفاعة) في سورة البقرة في الآيتين 48-123 على التوالي.
ولو أراد باحث استقصاء ما تقدم من ألفاظ وما تأخر منها وبعد هذا كله أقول:
لم يقع عندي أن تقديم (الضرّ على النفع) أو تأخير أحدهما عن الآخر على التوجيهين اللذين ذكرهما الكرماني ، ولا من تابعه:
إنّ العابد يعبد معبوده خوفاً من عقابه، ثم طمعاً في ثوابه، فماذا نقول في مقولة نسبت لأكثر من صالح بين نبي، وولي، وصوفي، وزاهد: "ما عبدتك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك "(15)، وربما اعترض بعض أن من قال هذا واحد أو قلة، وهذا صحيح غير أن التعبير القرآني (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها – الآية 49 من سورة الكهف). وإن تقدم (النفع) على (الضرّ) لسابقة لفظ تضمن معنى. فنضيف أن سياق الآيات التي ورد فيها (الضرّ والنفع) هو الذي يحدد تقديم هذا اللفظ أو تأخيره، فضلاً عن عبارة الكرماني الجميلة (لسابقة لفظ تضمن معنى)، والله الموفق للصواب.
..............................
المراجع والمصادر:
1)    عبد القادر أحمد عطا، مقدمة تحقيق كتاب (أسرار لتكرار في القرآن المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان – لتاج القراء محمود حمزة الكرماني (ت نحو505ه)، دار الفضيلة، القاهرة، د.ط، تاريخ المقدمة 1977م، ص48.
2)    نفسه، ص49.
3)    نفسه، ص63.
4)    غيّر محقق الكتاب عبدالقادر محمد عطا عنوان كتاب الكرماني الذي نصّ عليه في ص64، قال الكرماني:" وسميت هذا الكتاب (البرهان في متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان)، وقال المحقق:"... سنتحدث عنها عند الحديث عن كتاب البرهان أو أسرار التكرار في القرآن) كما أطلقنا عليه، وقال :" ولا نعلم مظنة للضعف أظهر من التكرار وهو الباب الذي حاوله الكرماني تاج القراء في كتابه (البرهان) ...، وقال:" فالكتاب معروف إذن بين العلماء القدامى ، ولكنه لم يتداول في عصرنا، ولم تنهض إليه يد لإخراجه لسبب واحد فيما نرى، وهو العنوان الذي اختاره للكتاب إذ سماه: البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان.".
ولست أدري لم غير المحقق عنوانه، فأمانة التحقيق وأصوله وقواعده كلها تقتضي إثبات العنوان الذي أراده مؤلفه وصرح به ، وقد ارتكب المحقق تزييفاً لا موجب له ولا مسوّغ على ما ذكره عبد السلام هارون في كتابه: تحقيق النصوص ونشرها، مكتبة السنة، القاهرة، ط5، 1994م، ص43.
5)    أسرار التكرار، ص43.
6)    نفسه ، ص130.
7)    أسرار التكرار، ص130.
8)    نفسه، المقدمة.
9)    البحر المحيط في التفسير، بعناية الشيخ زهير جعيد، دار الفكر، بيروت، طبعة جديدة، 2005م، 4/240- 244.
10)    2- نفسه، 4/240- 244.
11)    3- نفسه، 4/240- 244.
12)    أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999م، 1/278.
13)    الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، د.ت، 1/34.
14)    ينظر عبد القادر حسن، أثر النحاة في البحث البلاغي، دار غريب، القاهرة، د.ط، 1998م، ص81.
15)    ينظر عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي، ما عبدتك طمعا في جنتك، ولا خوفا من نارك، مؤسسة الرسالة-ناشرون، بيروت، د.ط، د.ت.

تعليق عبر الفيس بوك