الوداع البطيء

عفراء الحوسنية

يدخل بيته، ويخرج كالبطل الهمام، له في كل ركن منه موقف وحكاية، يشجع هذا ويعنف هذا، يطبطب على رأس طفلته، ويربت على كتف ولده، يسقي حديقته، ويشرب قهوته مع أسرته، ويلبي احتياجاتها بلا ضجر، أو سأم، يزور أرحامه، ويساعد جيرانه، يقصده الناس لحل مشكلاتهم وفك نزاعاتهم.

هكذا هو ابنٌ بار لأهله ووطنه، عامل وصاحب رسالة، أخ ورفيق، زوج وأب، مشير وقائد. تمر السنوات عليه، وهو على هذه الحال، ثم يبدأ بالانسحاب التدريجي، ومن دون أن يشعر بنفسه، أو دون أن يشعر به أفراد أسرته أحيانا، فلم يعد الآمر الناهي، المدبر المصير، الحنون العطوف، يرحل الود مع كل ما رحل منه، ينسى بعض الأغراض التي أوصته زوجته ليشتريها، ولم يعد حريصا على متابعة مستوى ابنه، ولا يهتم بتفوق ابنته. تنتابه حالات اكتئاب أحيانا، ويفسر الأمور بعكس ما هي، يختفي بعضه يومًا بعد يوم، تغادره هيبته تدريجيا، وتختفي صفاته التي تعودها منه أهله وأسرته. يختلط ذهنيا، ويتوه في أماكن مألوفة، ولا يقوى على القيام بمهام الرعاية الذاتية لنفسه، يواجه صعوبات في الكلام واللغة، ويميل إلى العدوانية والشكوك بالآخرين، إنه مريض ألزهايمر الذي قد يصاب به الفرد نتيجة التقدم بالعمر، أو بسبب التاريخ العائلي للمرض، أو نتيجة إصابات بالرأس، أو بسبب مشاكل القلب وغيرها من الأسباب. هذا المرض يحرم المصاب به من الحياة بجميع ألوانها؛ لهذا فإنه من الضروري الاهتمام بهذه الفئة التي كدحت وربت وغرست وأعطت وتفانت، وإحاطتها بالمحبة والاهتمام والرعاية. وتتعدد الأدوار المطلوبة من ذوي المريض تجاهه؛ فأول ما يجب أن يقوموا به هو السعي الحثيث؛ لتشخيص حالته بدقة من الأطباء المختصين، وتحديد درجتها؛ حتى يتم التعامل معها وفق ما تقتضيه، وهنا من الأهمية أن يسارع ذوو من تظهر عليه أعراض هذا المرض في بداياته المبكرة وعدم الانتظار؛ حتى لا تتفاقم حالته، لاسيما من تظهر عليه كثرة النسيان ومشكلات الذاكرة، ثم تأتي مرحلة الاهتمام، ونوعية الرعاية الواجب توفيرها لهذا المريض من ناحية مأكله وملبسه ومشربه ونظافته، كما أنه من الضروري الاهتمام ببيئته المكانية والمعنوية من خلال: توفير الهدوء، وإبعاد صخب الأطفال وإزعاجهم، والتعامل اللفظي المناسب، والحرص على مشاعره، وانتقاء الردود المناسبة لأسئلته من دون تجريح أو سخرية؛ حتى وإن بدا منه ما بدا، إذ المعروف عن مرضى الزهايمر فقدانهم للذاكرة التدريجي، واختلال وظائف الدماغ؛ الأمر الذي يؤثر على إدراكهم وحواسهم، وبالتالي يُتوقع منهم كل شيء. إن المحيطين بهذا المريض، وممن يتولون رعايته يفضل أن يكونوا ممن كانوا يرتاح لهم، ويحبونهم في فترة ما قبل المرض كما نصح به المختصون من الأطباء، فكونوا لهم العين التي ترى، والأذن التي تسمع، واليد التي تعمل، وما أصدقه من وصف لحال المنزل بعد غياب الأحبة، وما يتركه فقدهم بعد أنسهم؛ وإن اختلفت المناسبة فالشعور ذاته، والفقد أنواعٌ منوعة، ولكن الوجع نفسه:

بالأمس كانوا ملء منزلنا...

واليوم ويح اليوم قد ذهبوا

وكأنما الصمت الذي هبطت...

أثقاله في الدار إذ غربوا

إغفاءة المحموم هدأتـــــها...

فيــها يشيع الهم والتعــب

مرضى الزهايمر، يودعونكم ببطء.. وحتى لا تباغتكم فجاءة رحيلهم؛ كونوا معهم كما كانوا معكم.

تعليق عبر الفيس بوك