الكتلة الوطنية.. مُقوِّمات النجاح وعوامل التعثر 4/4

عبيدلي العبيدلي

تقف مقابل مُقوِّمات النجاح تلك مجموعة أخرى من العوامل، تشكل في مجموعها منظومة متكاملة عملت وما فتئت تعمل من أجل الوقوف حجر عثرة في وجه أية محاولة جادة لبناء صرح كتلة وطنية راسخة الأقدام، قادرة على القيام بالمهام المنوطة بها من أجل تحقيق الأهداف التي تناضل من أجل تحقيقها. ويمكن سرد أهم عوامل التعثر التي حالت دون نشوء مثل تلك الكتلة الوطنية البحرينية، وتلخيص الأهم بينها في النقاط التالية:

1. غياب الشخصية الكاريزمية التي تتوفر فيها الحدود الدنيا من متطلبات القائد الوطني الذي بوسعه أن يقود حركة جماهيرية واسعة تنبثق منها الكتلة الوطنية المطلوبة، التي تنقل العمل السياسي إلى المستوى المطلوب، بما في ذلك تقليص الفردية التي تحاول أن تفرضها تلك الشخصية الكاريزمية، دون الدخول في صدامات معها. هنا تكون مسؤولية الشخصية الكاريزمية، بمثابة العامل المساعد الذي يسرع من عملية تشكل الكتلة الوطنية، دون أن يتجاوز ذلك الحدود الطبيعية لتلك المسؤولية، فينتقل كي يتحول إلى ديكتاتور متسلط. ولعل في الشخصيات البحرينية التي قادت حركة "هيئة الاتحاد الوطني" الكثير من المواصفات التي نتحدث عنها، والتي تشرح ذوبان الفرد في حركة المجموعة، دون التفريط في قدراته الفردية، وتسخيرها في خدمة تشكل الكتلة الوطنية، وتطورها نحو الأفضل، وارتقاء أدائها، وعلى نحو مستمر نحو الأحسن.

2. حضور ضئيل ومهمش لمنظمات المجتمع المدني، التي عانت من ممارسات الإمعان في التسييس الممنهج من قبل مُكونات العمل السياسي البحريني دون أي استثناء. فمن رحم تلك المنظمات تنبثق الشخصيات، أو حتى الشخصية الكاريزمية المطلوبة التي تقود مسيرة بناء الكتلة الوطنية، وفي مرحلة لاحقة، تتحول هذه المنظمات إلى السياج الذي يوفر الحماية التي تحتاجها الكتلة الوطنية لمواجهة الضربات التي من الطبيعي أن تتلقاها من خصومها، أو حتى منافسيها. وفي غمرة العمل السياسي خاصة في مراحل المد الجماهيري تغيب عن أذهان القيادات السياسية، الدور المهم الذي تمارسه منظمات المجتمع المدني فتمارس تلك القيادات بوعي منها أو بدون وعي دورًا تخريبيًا تجاه تلك المنظمات، لا تدرك سلبياته إلا في مراحل متأخرة، يصبح فيها إصلاح الدمار غير مجد.

3. النزعة التسلطيّة أو الاستحواذيّة لدى واحد أو مجموعة من القوى السياسية التي تحاول، بشكل انتهازي، تهميش دور الآخرين، كي تخلو لها الساحة من أي منافس يمكن، من وجهة نظرها، مشاركتها في اقتسام الكعكة. وتتمظهر هذه النزعة في مجموعة من السلوكيات المتكاملة التي تشكل في مجموعها سياسة واضحة المعالم، يحاول فيها هذا التنظيم، أو مجموعة من التنظيمات سرقة نضالات الجماهير وتسييرها لصالح البرنامج السياسي الذي تتبناه الفئة التي تسيطر على سلوكها هذه النزعة. أخطر ما في الأمر عندما تتطاول هذه النزعة ويحاول من يقف وراءها أن يكون البديل التاريخي للكتلة الوطنية، الأمر الذي يقود إلى تأجيل تكون تلك الكتلة، أو وأدها وهي ما تزال في مراحلها الجنينية الأولى. ويحلو لمن يقف وراء هذا السلوك أن يقزم برامج القوى الأخرى، بشكل مغلف، يخفي وراء نزعته الاستحواذية التي نشير لها. وحينها تجد الكتلة السياسية أن طريقها بدلا من أن يكون معبدا وسلسا يصبح حقل ألغام يمكن أن ينفجر في وجه من يدعو لتشكيل تلك الكتلة.

4. صراعات الإسلام السياسي، ويؤسفنا هنا الدخول في توصيفات طائفية، بشقيه الشيعي والسني. فبدلا من أن نرى أعلام الوحدة الإسلامية السياسية ترفرف فوق رأس كتلة وطنية متماسكة، وجدنا معاول هدم الخلافات بين الطرفين تهشم أية محاولات للسير في هذا الاتجاه. ووجدنا الإسلام السياسي الشيعي، يحاول أن يستفرد بقيادة الشارع البحريني، حتى وإن انحصرت هذه القيادة في إطارها الشيعي الضيق، ويرفض الاعتراف بأي طرف إسلامي آخر. ولم يكن الإسلام السياسي السني بأفضل حال من شقيقه الشيعي، حيث جاءت ردة فعله متهورة، فوضع نظيره الإسلام السياسي الشيعي في خانة الأعداء، بدلا من أن يصنفه في فئة الأصدقاء. ودون الحاجة للدخول في التفاصيل، واستحضار الشواهد، أدى ذلك إلى انقسام عمودي في المجتمع البحريني، تجاوز حدود الشارع السياسي. وقصم ذلك الانقسام ظهر كل الدعوات الصادقة التي كانت تنادي بتشكيل الكتلة الوطنية. ذيول هذا الانقسام ما تزال أدوارها السلبية تشكل حائطا سميكا أمام مساعي تشكيل كتلة وطنية فاعلة، بالمفهوم المتعارف عليه.

5. الدولة وسياساتها التي حالت وبشكل ممنهج دون بروز كتلة وطنية متماسكة؛ لأنّ في بروزها تتبلور حركة سياسية معارضة لها تأثيرها الملموس على سير الأحداث وتطورها. وكي نتحاشى التحليل العاطفي، فمن المنطقي أن تمارس السلطة مثل هذه السياسات، إذا ما قبلنا بأنّ العمل السياسي، برمته، وبمختلف أشكاله، إنما هو صراع متجدد بين من هم في السلطة، وبين من يمثلون المعارضة. ومن ثمّ فلا تكتمل صورة سرد عوامل تعثر بروز كتلة وطنية بحرينية إذا ما أغفلنا دور الدولة في هذا المجال. وساذجة هي الكتلة الوطنية إذا افترضت حيادية الدولة في هذا الميدان. على أنّ الإشارة إلى دور الدولة، لا ينبغي أن يقودنا إلى تصنيف الدولة في خانة الأعداء، أو نحو ذهنية سوداوية، تؤدي إلى حالة من اليأس غير المبرر. فعندما تنضج الظروف الموضوعية، وتتوفر العناصر المؤهلة يصبح انبثاق الكتلة الوطنية أقرب إلى تحصيل ما هو حاصل. هنا، مرة أخرى يأتي دور الشخصية الكاريزمية التي تلتقط اللحظة المناسبة كي تبدأ في وضع اللبنات الصحيحة الضرورية لبناء صرح الكتلة الوطنية المطلوبة والملائمة.

منطق العمل السياسي يقول إنّ مهمة بناء كتلة وطنية متماسكة تمارس دورها الفعلي ليس بالأمر السهل. ومن يتصور أنّ الطريق التي تنتظر هذه الكتلة، حتى بعد تشكلها مفروش بالورود، واهم فكريا، وساذج سياسيًا. فالوصول إلى مرحلة وجود كتلة وطنية بحرينية متماسكة وفاعلة في مسار العمل السياسي البحريني بحاجة إلى جهود مكثفة، وبعد نظر عميق، وإيمان صادق، وأخيرًا وليس آخرا، نكران للذات يذيب فيها المصالح الشخصية، والفئوية الضيقة، في محيط المصالح الوطنية المتلاطم اللامحدود.