المغربيّ علي أزحاف لـ"الرؤية" :ثمة شيء فاسد في مملكة الشعر المغربيّ

حاوره : ناصر أبو العون

o    الكتابة موت والنقد حفّار قبور والجثّة النصّ.
o    نعيش الرداءة متنكرة في ريش طواويس منتفخة.
o    ثمة شيء فاسد في مملكة الشعر المغربيّ.
علي أزحاف من الأصوات الفاعلة في المشهد الشعريّ العربيّ، وله حضور واسع وراسخ في الساحة الثقافية المغربية ويتمتع بطاقة متجددة لكتابة النصوص ويمتلك مخزونًا من الإبداع الجاد وهذا يشكل لديه صعوبة في اختيار وانتقاء ما يود الدفع به إلى المطابع. صدرت مجموعته القصصية الأولى "نخب البحر" عن سلسلة البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع في العام 2008 ودفع بمجموعته الشعرية الأولى "ترانيم بوذا الصغير"، ومجموعته الشعرية الثانية "ويستبد بالحديقة الفراغ" عام 2017 ، وأخيرا أصدر ديوانه "تحت جلدي مقبرة " عن مؤسسة الموجة الثقافية (منشورات نيوبروميثيوس) بدعم من وزارة الثقافة المغربية. قال عنه الناقد عبد الواحد مفتاح: " لديه قدرة ارائعة على الذهاب بالصورة الشعرية إلى أقصى طاقتها التعبيرية، وهي صورة تَخْتَطُّ عن حَدْسِ شاعرها لا فكرته، وهنا بَصْمَته التي تَدُلُّ عليه، وهي بصمت لا تُحيل على رَهْبَنِيَّةٍ ما، بل على البحث الدائم والصقل المبرح للأسْلوب المتميز الذي يشتغل عليه".
وجاء في شهادة القاص أنيس الرافعي "علي أزحاف شاعر يكتب القصيدة بأدوات القصة، لهذا تجد أن سَرديته الشعربة مفتوحة الأبواب، وتتماها مع معطى النثر خاصتها، ما يهبها فتنة وبساطة حيت القصيدة لديه تتسمى بأسماء الدهشة، وهي إلى ذلك معطى شعري جد متفرد في الساحة الثقافية المغربية، لما تختزله من بساطة وقدرة فائقة عن التبليغ، بدون الحاجة لتلك البلاغة الجاهزة سلفا"
يعتقد كثيرون وخاصة من الكائنات الناتئة على جسد القصيدة والمتسلقة جبال الإبداع على أكتاف النقد الانطباعي والغازية لقلاع الأوساط الثقافيّة أنَّ الكتابة بمثابة ميلاد وانبعاث جديدين؟ كيف تنظر إلى الكتابة والإبداع من وجهة نظر فلسفية وإبداعيّة؟ ..
أنا ضد هذه الفكرة؛ الكتابة في اعتقادي، موت..لأننا حين نكتب نودع شيئا من أرواحنا داخل اللغة..أو قطعة من أرواح غيرنا عبر الذاكرة.. هي، في كل الأحوال، عملية استقطاع لأجزاء من الروح والذاكرة، من الحياة أو العمر المعيش، أو من تاريخ آفل، ليتحول إلى جثة، قد نسميها قصيدة، قصة، رواية، لوحة تشكيلية إلخ..
حين نكت، نتنازل عن حيز من الروح/الحياة الذاتية.. ليصبح موتا صوريا في الزمن، أو اللحظة.. والمقبرة هي اللغة.. والقراء هم الحاضرون في الجنازة.. والنقد قد يكون الفقيه الذي يؤبن الميت بما تيسر من الذكر الحكيم، وقد يكون أحيانا حفّار المقبرة..
والجثة/النص.. هنا عاجزة، فاقدة لأي إرادة.. لأن الكتابة/الروح.. حين تغادر صاحبها، تصبح مستقلة عنه.. ويبقى الأخر حرا في طريقة دفنها، حسب طقوس الواقع المستحكم في أعراف وتقاليد ألمرحلة، أو حسب ثقافة العصر.. فهناك من يدفن كما هناك من يحرق.. وطرق الدفن متنوعة أيضا...
الكتابة موت نسبي في الزمن .. وقليل من النصوص/الجثث، ما يُقدَّر لها أن تبعث من جديد داخل صور وصيغ أخرى.. خاصة النصوص التي تظل أرواحها طافية حولها، أسيرة في العالم الوسط /البرزخ، بين عالم الأموات والأحياء...
هي نصوص/ جثث، بأرواح معذبة ملعونة، مكتوب لها أن تظل تائهة ضائعة... لكن أزلية، تأبى عن الغياب النهائي، تنوس بين منطقة النور والظلام... بين الحياة والموت.. بين عالم الشياطين  وعالم الملائكة... هي كتابة/موت، تسم جثثها بأرواح كامنة في الوجود...
قد نسميها بـ(نصوص/جثث)، تمتلك أرواحا مغايرة، متعددة، قادرة على الإنبعاث من ملكوت الموت في أي لحظة.. هي النصوص المنذورة للبقاء الأبدي..أو ما يصطلح عليه النقد/ الجنائزي وحفاري القبور، بالنصوص/الجثث، غير الخاضعة لأي تصنيف يسنّه منطق التشريح الهُوياتي.. ويسميها النقد الحي..: النصوص الخالدة..
***
بماذا تنصح من يتخذ من الكتابة أداة في اكتشاف العالم واستكشاف الذات، والبحث عن الحريّة؟
الكتابة لا تملأ الفراغ من حولك، بل تعمقه أكثر وتخنقك.. هي الماء الذي يسقي أشجار الملل في أرضك، كي تصبح غابة.. هي التربة الخصبة لكل الأعشاب الضارة ..هي الشوك الذي يسيج الوردة ويدمي أحيانا أصابعك...هي السحابة السوداء التي تحجب عنك الشمس والقمر معا وتحجبك.. هي الكابوس الذي يقض مضجعك.. هي الأرق الذي يسكن عينيك...هي الحبل الذي تمسدها فتشنقك..
الكتابة في زمن ثقوب الأزون، لا تزيد سوى في حفر قبرك.. هي التي تجعلك وحيدا في معبدك... منعزلا عن آفاق الفرح.. هي لوحة "الصرخة" التي تملأ أذنيك بالضجيج..هي كل تلك الأفكار التي تروادك.. وتجعلك كائنا غيرمحتمل ... متوحش في غِيِّك المبين... هي نظرتك المنكسرة في المرآة... وظلك الأسود الذي يرافقك...
الكتابة استرجاع مستمر لمأساة العالم.. وبؤس التاريخ... وعي طافح بالجثث.. حروب كلها هزائم... سفر في دهاليز سوداوية مزمنة... مرافقة مستمرة للموت... مجاورة دائمة لبيت الانتحار... عزوف مرير عن لذّة العادة والعادي... إيقاظ لمواجعك..
الكتابة في زمن تلوث الحواس، اختناق مستمر .. تجلط في شرايين الذاكرة... وضيق في تنفس الوجود... حكَّة حارقة في نياط القلب.. وقرحة في المعدة.. سوء هضم ثقيل على أمعاء الحياة...
الكتابة... زهد في الحب.. حين أصبح الحب صفقة في سوق التنابلة، ومزايدة علنية..... تصوُّف لا إرادي.. في زمن الأديان المخضَّبة بالدماء.. فيلم طويل يعيشه بطل من ورق يحترق في النهاية... خمرة رديئة تصدع رأسك وتقرفك...
الكتابة في زمن أدب "القفز بالمظلات" والمراحيض العمومية.. تأجيل مستمر، عبر اللغة، للقادم لا محالة.. قتل للوقت.. جلد ذاتي.. تطبيع غير متوازن مع واقع فاشي... تحرير مؤقت لعبيد القبيلة... الكتابة لا تملأ الفراغ من حولك.. هي البياض الذي يؤكد توحدك.. هي الزمن  الذي يأكلك... هي التيه الذي يسكنك. . هي الدوامة التي تبتلعك... وكل مرة، أنت الفينيق الحزين، تحاول ببعض الكلام أن تنبعث من جديد.. لكن الكلام يتحول إلى كتابة... والكتابة تحرقك.. لتظل هي النار، وأنت الرماد... لتأتي ريح المحو فتبعثرك..
***
كيف ترى المشهد الشعري عربيًا ومغربيًا؟ وماذا تقول عن تلك الطواويس المنتفخة التي تزعق في الساحة الشعرية ولا يربطها بأقيانوس الشعر سوى خيط رفيع قد ينصرم ويتلاشى أمام أية هبة ريح واهية؟
إلى متى سيظل الشعر أسيرا لقبائل التتار، تنتهك جثته في محارق الهولوكوست من طرف" النازيين الجدد"، أشباح بدائية تقترف جرائم الكلام باسم قداسة الإبداع، تجار العبيد والنخاسة، من تطاولوا بقاماتهم القزمية ونصبوا أنفسهم أصناما تستتبد بممالك القول وتحتكر المسافات الممتدة بين الفاعل والمفعول، بين المبتدأ والخبر، بين الوهم والحقيقة...
الى متى يكتب علينا في كناش القدر الأحمق أن نعيش الرداءة متنكرة في ريش طواويس منتفخة لا يربطها بأقيانوس الشعر سوى خيط رفيع قد ينصرم ويتلاشى أمام أية هبة ريح واهية، وكيف لهذه الأمة الهلامية أن تتقبل واقعا مفروضا يجعل من زمرة فارغة سدنة وكهنة عروشها خاوية، تمتص دم النصوص كما حشرات شرسة، أو قراصنة ولصوص يستولون على بضائع الغير، ويضعونها أوسمة على صدورهم الفارغة...
إلى متى يمتد الصمت، وتترك قبائل الفساد تعيث عبثا في حقول الشعر وتأتي على الأخضر واليابس.. أما في هذه الدنيا أصوات شجاعة شريفة تقول لا ضدا على كل هذا الهراء؟..
أما في هذا البياض الوجودي أقلام تمتلك بعض كرامة.. تبصق في وجه كل هذه الدعارة والتسيّب المتردي الذي ينخر كياننا الشعري ويجعل منه جذوعا مسوسة تطفو كما زبل فوق مياه بركة آسنة...
إلى متى يحكم على جيد القول،لاوالإحساس الجميل بالتهميش والإفراد...لابينما تتصدر الواجهة اسماء أشباه شعراء..لاحمير مستنفرة فرت من قسورة...
إلى متى سيترك الشعر غريبا في زمانه... بينما يسرح ويردح في ميادينه زمرة من قوم لوط، و عديمي الموهبة... في المهرجانات والملتقيات.. يتسولون سقط الموائد، ويتبادلون المجاملات.. والتهاني وكأنهم في مجمع لهو منه يسترزقون...
ياشعراء آخر زمن قولوا كلمتكم.. فقد بلغ السيل الزبى.. وفاضت الكأس بما فيها...فلا تكونوا مثل البعير التي قصمت ظهورها بقشة تافهة... كونوا على قدر عزائمكم... أو اصمتوا .....
إلى متى تظل القصيدة رهينة "لكومندو"القوادين والسماسرة، ومنظمي الحفلات.....
إلى متى يظل الحق نائما في الظل... بينما الباطل يصول ويجول، يغالي في غيّه، ورعونته...
الشعر حرية، وكرامة وشجاعة قول وجمالية حياة... كفاكم نفاقا ومحاباة....
كفاكم رضوخا وانهزامية.... أنتم من يكتب ويبدع... كيف تسمحون لأكلي الجثث أن يتحكموا في مصائركم، أن يركنوكم إلى الهامش.... عيب عليكم أن تبيعوا الشعر وضمائركم في بورصة القيم الفاسدة، من أجل قصيدة تنشر، أو دعوة لملتقى، أو معرض كتاب..... الشاعر محارب لا يعرف المساومة، سلاحه الكلمة والمبدأ والصدق....
الى متى أيها المنهزمون ستظلون مجرد ظلال شاحبة، وآثار خطى تقتفي خطى من سبق..... لعنة الله عليكم يامن جعل منكم الجبن عبيدا في سوق الشعر، وجوارٍ في سوق النخاسة...
ياشعراء ....اعلنوها ولو مرة واحدة ثورة في وجه زبانية الكتابة، وخدمة المنابر الذين يسدون أمامكم أبوابها.... فهم أضعف من جناح بعوضة... لكن للأسف أنتم لا تعلمون.
***
فضلا ..اكتبْ شهادتك على العصر العربيّ في إيجاز شديد
نحن نعيش عصر الهزيمة...هزيمة الجمال أمام القبح.. هزيمة التاريخ أمام الخرافة.. هزيمة الإبداع أمام الرداءة... هزيمة الدين أمام رجال الدين.. هزيمة الفكرة أمام البدعة.. هزيمة النص أمام اللص.. هزيمة الكتابة أمام الرتابة.. هزيمة السياسة أمام الكياسة... هزيمة الحب أمام الكراهية.. هزيمة السلم أمام الحرب... هزيمة الحرية أمام الاستعباد... هزيمة المعرفة أمام الجهل... هزيمة القيمة أمام السلعة... هزيمة الممكن أمام الكائن ... هزيمة الشعر أمام العهر... هزيمة النهار أمام الليل... هزيمة البياض أمام السواد... هزيمة الصدق أمام الكذب.. هزيمة القول أمام التأويل..... هزيمة العقل أمام النقل.. نحن نعيش عصر هزيمة الإنسان..

ما حكايتك مع الشعر، وكيف تنظر إلى النقد؟
الشعر حكاية قديمة تؤرخ لهزيمة الحياة أمام بؤس الإنسان والعالم.. كتابة الشعر، محاولة وجودية يائسة لتجاوز اللحظة، واليومي القاتل.. هي محاولة لاسترداد ما ضاع منا في زحمة الواقع(الحب مثلا أوالحرية)..عبر لغة الذاكرة.. والذاكرة ماكرة، لا تزودنا دائما بما عشناه، بل قد تزودنا بما تمنيناه، أو تخيلناه، أو حلمناه... ومازال يمور في مغاوير اللاوعي .. وكثيرا ما تقوم الذاكرة بمحو صفحات وأحداث من الماضي المعيش، لتعوضها بصور من مجاز واستعارة، تسكننا مثل شريط سينمائي سوريالي، يختلط فيه الحلم بالواقع... الذاكرة سلطة تمارس المحو بأدوات لغة الشعر ،أكثر مما تمارس الكتابة.. نحن نمحوا (بالشعر) أكثر مما نكتب...
والأسلوب هو "الجريمة الكاملة" التي يرتكبها "الكاتب المتسلسل" في حق اللغة، دون أن يستطيع الناقد /المخبر، أن يدينه، رغم توفر أدوات الجريمة/النقد، بين يديه.. إنهم يقتلون تاريخ الشعر الحي، ويكتبون تاريخ شعر ميت... لعنة الله على النقد المأجور، وبعض دور الدعارة، عفوا، النشر العربية.. وتضخيم الخطاب النقدي الشعري بترسانة من المفاهيم الاصطلاحية الفاقعة، تجعل الناقد المقارب للمتن الشعري المغربي يشتغل خارج النص.. كمن يسبح في الرمل والبحر أمامه يرفل في زرقة أمواجه.
أحتقر الشعراء الذين يتحدثون عن أنفسهم، ويستعرضون محاسنهم ومزاياهم في أنانية بليدة ومتبرجة.. مثل  عاهرات تافهات، يعرضن مفاتنهن  وأجسادهن  المستهلكة، على الملأ.. فمهما استعرضن وتبجحن، يبقين، في الأول والأخير.. مجرد عاهرات رخيصات ...(وعفوا للعاهرات..مجرد تشبيه لا يسيء)..
هناك من يكتب عن موهبة وتجربة وثقافة.. وهناك من يكتب بموهبة غيره، تجربة غيره، وثقافة غيره... الأول: مبدع.. والثاني: لص... وبطبيعة الحال، الكتّاب اللصوص أكثر شهرة وفضائحية من الكتاب المبدعين.. والجثث لا تكتب الشعر، تكتب كلاما يشبه، لكن من بعيد، يسير في جنازته قطيع غفير... الشعراء وحدهم يكتبون، لكنهم شهداء الصمت، أحياء، عند ربهم يرزقون..
لماذا يكتب علي أزحاف الشعر؟
لا أدري لمَ أكتب، لكنني أدري لمن أكتب. وكلما حاولت أن أتوقف عن الكتابة، وجدتني أكتب نصا آخر.. وكلما كتبته تزاحمت نصوص أخرى في رأسي، لدرجة أجدني أحيانا عاجزا عن صياغة هذا الزخم المريب من الأفكار التي تتناسل من ذاكرتي مثل خلايا حية، تتكاثر بسرعة غير خاضعة لأي تقنين لغوي أو منطق صارم؛ اللغة في محدوديتها المادية، تكون عاجزة عن استيعاب كل هذه الحياة والتجارب التي تختمر في أقبية الذات وتتجسد في حكايات تستعصي أحيانا عن التحول إلى نص شعري أو قصة... لكن يقيني الأوحد هو أن الكتابة هي الترياق الوحيد الذي يمتص من أعماقنا بعض الموت المتربص بالحياة، في كل لحظة، وعند منعطف أي زقاق أو شارع...
أكتب محاولا أن اخترع صورا خاصة بي في عوالم مألوفة وبسيطة، أن أفتح في جدار الواقع والحياة نوافذا وأطل منها على العالم المدهش في تعدده وتناقضاته وانسجامه أحيانا...عن الناس البسطاء، وعن الأشياء العادية التي تحوم حولنا، بلغة اعمل جاهدا كي تظل امتدادا لي وللحياة  التي أعيشها، مخلصة لأفكاري وللعمق الإنساني في تجربتي المتواضعة، وفي الوقت نفسه قريبة ما أمكن من وعي القاريء ومجاله  التخييلي والثقافي..
ولا أدّعي امتلاك سر الشعر ومفاتيحه.. وأعجز دائما عن إعطاء تعريفات للمفاهيم الكبيرة..مثل الكتابة، الشعر، الحالة الإبداعية...إلخ
هل تؤيد تيار الغموض الساري كالنار في الهشيم داخل المشهد الشعري العربي الآن؟
الشاعر الفاشل، يحاول جاهدا أن يملأ لغته بأكبر قدر من الغموض والألفاظ المستغلقة.... وهو، في نظري، مثل ذلك الفقيه المستبد الذي يحاول بعنف أن يحشو رؤوس أطفال أبرياء، بأفكار متطرفة.... والقصيدة المكتملة، قصيدة منتهية، ووجودها محدود في الزمن. ونصٌّ غامض ..نص ميت . ولا أؤمن بـ "الغموض"في النص الأدبي.. أؤمن فقط بالنص المتعدد، النص الذي كلما عاودت قراءته، يفتح أمامك سبلا جديدة ومتجددة، لاحتمالات القراءة والتأويل...
في الشعر والسرد العالميين، ليس هناك نصوص"غامضة".. هناك نصوص"معقدة" ربما، أو"عميقة"، أو مستعصية على الفهم البسيط، بسبب اختياراتها التركيبية، الأسلوبية أو اللغوية واتساع مجال مرجعياتها الثقافية والإنسانية، لكنها تبقى نصوصا مفهومة حين نتعمق في قراءتها ونمسك بالخيوط الدلالية، والفنية، التي يستند إليها الكاتب في عملية الإبداع.. "الغموض"حالة يداري بها بعض الكتاب إنعدام موهبتهم، وضحالة معرفتهم، ومحدودية رؤاهم.... والفقر في التجربة... والنص"الغامض"نص ملغى قبليا، لا يحقق أي لذة، سواء على مستوى بنياته اللغوية، أو الحسية أو النفسية. هو نص عقيم، نص عجز عن خلق أي ترابط علائقي بين الكاتب والمتلقي... نص ينعق خارج الحياة..
"الغموض"عقم مزمن، قد يراد به الاحتيال على القاريء بهدف إيهامه بقصوره المعرفي، وشلل ملكاته الإدراكية في الوصول إلى فك رموز النص والتمكن من إحتواء دلالاته... حتى ولو كان هذا النص، في حقيقته، مجرد رصف عشوائي لسقط الكلام وهذيان سطحي باسم "التجريب"وحداثة مخصية...
"الغموض"حالة عقم، وعجز عن الإمساك بماهية النص وبأبعاده الدلالية. وما يسميه البعض، نصوصا" غامضة" هي في الواقع، محاولات كتابية ولدت مشوهة في مختبرات التجربة الاصطناعية، المفتقرة للموهبة والعمق المعرفي وتعدده.. والنص الأدبي، لا يقبل " الغموض"، لانه نص موجّه للتلقي والتواصل الغائي، وخلق متعة لدى القاريء، وهو أيضا قيمة معرفية مضافة إلى رصيده الثقافي..
والنصوص الحقيقية، نصوص مشعّة معدية تستدعيك إلى التجاوب والتفاعل الإيجابي أو السلبي... حتى وإن كانت أحيانا، ذات حمولات متعددة ومعقدة، قد تستوجب معرفة، وقدرة غير عادية على فك رموز اللغة، وسبر أغوار المعنى في تجلياته المتعبة والمستعصية أحيانا، إلا أنها تبقى نصوص مضيئة، واستشرافية، تترك في ذهن القاريء رواسبَ تؤثر في ثقافته، وتخلق لديه لذة تذوق جمالية القول، والصورة، والتراكيب السردية المتجددة. والنص الشعري يكتسب هويته حين يعود إلى بدائيته.
في الأخير .. ماذا تقول لأدعياء الشعر الذين دخلوا من البوابة العريضة لقصيدة النثر واستوطنوا الساحة الشعرية من المحيط إلى الخليج؟
أشعر بقرف مميت حين أقرأ لمدّعين، يحفرون نوافذَ في جدران منازل غيرهم وينهبون من عوالمهم ماتيسر من الكلام والقصائد والأفكار ويرددونها مثل ببغاوات ساذجة بلهاء.. مثل لصوص حقرة، ثم يغلِّفون جرائمهم الأدبية بانتفاخ طاووسي عظيم في الأنا، وبخطابات واهية فضفاضة، يحاولون عبرها أن يستروا عريهم من الموهبة، وإخفاقهم في امتحان خلق اللغة والقصيدة، وعجزهم المزمن عن الإبداع وإنتاج نصوص أصيلة... وليس مجرد ظلال شاحبة لنصوص الغير. ..(وهنا أفتح قوسا وأترحم على شارلز بوكوفسكي الذي خربت جدرانه ونهبت عظامه، حتى أن البعض جعل منها إطارات للنوافذ التي يحفرها في جدران غيره)..
من يحفر في جدران غيره، ويسطوا على ملكات سواه وممتلكاته الإبداعية والفكرية، لا يعمل في الحقيقة سوى على حفر قبرٍ عميق لمستقبله مع الكتابة، فاستغباء القاريء وإداخته بالبهرجة والتهريج, والنفخ البالوني في الذات.. والكلام الكبير الذي لا يجدي سوى  لذر الرماد في العيون ... سينتهي لا محالة يوما بضحكة ساخرة من جمهور قاريء وذكي، حين تسقط ورقة التوت .. أو انفجار نقدي مدوي يفضح المستور ويكشفه.

تعليق عبر الفيس بوك