السياسيون العرب والتلاعب بالعقول

أ.د. حسني نصر

حتى وقت قريب كانت الخلافات السياسية العربية، الداخلية منها والخارجية، تدار في غرف مغلقة وعبر القنوات التفاوضية المعروفة، وكان ما يرشح منها ويصل بالكاد لوسائل الإعلام يصدر غالبا في لغة دبلوماسية هادئة ومهذبة تُبقي علي شعرة معاوية بين المختلفين، وتحفظ للجميع هيبتهم وكرامتهم، وهو ما أسهم في سرعة حل هذه الخلافات دون ضجيج كبير.

وفي الحالات القليلة التي وصلت فيها هذه الخلافات حدَّها الأقصى، وتحولت إلى حروب وصراعات عسكرية بين بعض الأنظمة، ظلَّ الأمر مقتصرا في الغالب علي حروب إعلامية تقليدية محدودة النطاق، استخدمت فيها وسائل الإعلام التي كانت تخاطب الداخل بشكل رئيسي، باستثناء حالات قليلة تم فيها استخدام ما يعرف بالإذاعات الموجهة التي كانت تبث من دولة ما مستهدفة مواطني دولة أو دول أخرى. ووفق هذا النسق التقليدي، كانت هذه الحروب الإعلامية العربية سرعان ما تخمد، وتتوقف تماما عندما تصل الدولتان المتصارعتان إلى تسوية ما، دون أن تحدِث شروخا كبيرة بين الشعوب العربية، التي كانت تدرك تماما أن صراعات الأنظمة مع بعضها، مؤقتة، بل وتنسى أو تتناسى سريعا ما كانت تمتلئ به الصحف والإذاعات من اتهامات متبادلة. المثال الواضح على ذلك ما حدث خلال سنوات المقاطعة العربية لمصر في أعقاب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في العام 1979. فقد دخلت وسائل الإعلام المصرية ومثيلتها من دول المقاطعة في حرب إعلامية ضروس استُخدمت فيها كل أسلحة التضليل الإعلامي، ومع ذلك وفور انتهاء هذه المقاطعة، بدا أن المصريين والعرب جميعا لم يتأثروا ولو بكلمة واحدة من ملايين الكلمات التي نشرتها الصحف وبثتها الإذاعات خلال هذه الأزمة.

ما الذي تغيَّر في الخلافات العربية الحالية، التي رغم هشاشتها مقارنة بالخلافات السابقة، أصبحت عصية على الحل وتتفاقم حدتها يوما بعد يوم؟ في تقديري أن الذي تغير هو المناخ الإعلامي العربي الذي تراجعت فيه وسائل الإعلام التقليدية التي كان من السهل للأنظمة السيطرة عليها، لحساب وسائل الإعلام الجديدة التي خرجت -أو كادت- عن السيطرة، والتي فتحت المجال للملايين للمشاركة في نقل وتبادل المعلومات والآراء التي تعمق الخلاف.

ولعل أهم ما حدث وغير المعادلة وأحدث مزيدا من الفوضى في علاقات بعض الدول العربية ببعضها البعض أن تلك الخلافات خرجت، عبر حسابات المسؤولين السياسيين، إلى الفضاء الإلكتروني الواسع من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت لساحات لتبادل الاتهامات والسباب، فتحولت الخلافات إلى أزمات وصراعات ومن ثم إلي حروب، تتغذى يوميا على ما ينشره هؤلاء السياسيون من آراء وتعليقات، وربما معلومات مضللة تزيد من حدة الخلاف بين المناصرين والمعارضين وتنشر الكراهية. نعلم أن السياسي شأنه شأن غيره من البشر يمتلك الحق في الإعلام الذي يمثل أحد أهم حقوق الإنسان في العصر الحديث؛ هذا الحق الذي يعني تساوى البشر، وحق كل واحد منهم في أن يعلم ويُعلم عنه، وعلى هذا فإن من حق المسؤول السياسي أن يعبر عن رأيه مستفيدا من المجال العام الذي أتاحته شبكات التواصل الاجتماعي. وقد سار بعض السياسيين العرب من رؤساء ووزراء على النهج العالمي في الاستعمال الواسع لحساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعي كوسيلة تواصل دائمة وسهلة مع العالم. ويمكن أن نميز هنا بين نوعين من هذه الحسابات، الأول هو الحسابات التي نجحت في تقريب أصحابها إلى الجماهير والتزمت بمعايير الموضوعية وركزت على الأخبار والمعلومات وترفعت عن الدخول في القضايا الخلافية، والنوع الثاني هو الحسابات التي نجحت في صنع وتأجيج الخلافات العربية، ويقتات أصحابها على الأزمات، وتحرص علي بث بذور الفرقة؛ سواء بما تنشره من معلومات مضللة أو آراء منحازة. والواقع أن الكفة أصبحت تميل في السنوات الأخيرة للنوع الثاني من حسابات المسؤولين العرب علي شبكات التواصل الاجتماعي وهو ما يمثل تحديا كبيرا ينبغي التصدي له، خاصة وأن أصحاب هذه الحسابات سواء من مسؤولين حاليين أو سابقين محسوبون على دولهم، وتختلط في حساباتهم آراؤهم الشخصية والمواقف الرسمية الخاصة بهذه الدول في الأحداث والقضايا المختلفة.

وفي تقديري، فإن هذه الظاهرة التي تشعل الخلافات وتجذِّرها وتجعلها عصية على الحل لا يمكن مواجهتها إلا من خلال تدخل الدول المعنية لمنع استغلال المسؤولين الحاليين والسابقين لحساباتهم الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي في التعبير عن الرأي في القضايا الخلافية، وقصر هذه الحسابات علي نشر الأخبار الرسمية أو الشخصية الخاصة بالمسؤول، والأهم عدم استغلالها في ممارسة التضليل الإعلامي بأي شكل من الأشكال. وهنا، أتذكر أنه في العام 1973 نشر عالم الاجتماع والإعلام الشهير هربرت إيرفنج شيللر كتابه المهم "مديرو العقول" الذي نقله إلى العربية عبد السلام رضوان وصدر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية تحت عنوان "المتلاعبون بالعقول" في العام 1986. عندما صدر هذا الكتاب الذي يتناول بالتحليل آليات التضليل الإعلامي، لم تكن الإنترنت قد تحولت بعد إلى وسيلة اتصال جماهيرية وكان استخدامها مقصورا على النخبتين العسكرية والعلمية في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا، كانت وسائل الإعلام التي يُنسب إليها صناعة التضليل في العالم العربي تقتصر على التليفزيون والإذاعة والسينما والصحف، التي كانت تستخدم بإشراف الدولة وفي أوقات محددة كأداة في إدارة الخلافات والصراعات. لم يكن العالم قد عرف بعد وسائل الإعلام الإليكترونية الجديدة وما تولَّد عنها في الألفية الجديدة من شبكات التواصل الاجتماعي، والتي وسعت نطاق التلاعب إلى حد لم يحلم به شيللر نفسه، وأضافت إلى المتلاعبين بالعقول أعدادا كبيرة من المسؤولين الحكوميين الذين خرجوا إلى الشبكة ليمارسوا هم أيضا التلاعب بالعقول باستخدام نفس الأساطير والأطر التضليلية الخمسة التي حددها شيللر وعلي رأسها أسطورتي الحياد والتعددية الإعلامية.

من المهم أن نؤكد على بقاء شبكات التواصل الاجتماعي مفتوحة وحرة للجميع، وبعيدة عن السيطرة الحكومية؛ باعتبارها نوافذ للتعبير لا غنى عنها في العالم المعاصر من جانب، ومؤشرات ذات دلالة على حركة الرأي العام في المجتمع من جانب آخر، ولكن من المهم أيضا أن نُقنن وصول المسؤولين العرب الرسميين إليها، وأن نضع الضوابط التي تساعد في الحد من الأضرار الكثيرة الناجمة عن سوء استغلال هذه المنصات في تضليل الناس واختلاق الأزمات وإشعالها وضمان استمرارها. إن المسؤول الذي ينفق معظم وقته في متابعة هذه الشبكات والنشر عليها والدخول في نقاشات سفسطائية مع المؤيدين والمعارضين لن يجد وقتا لرسم السياسات ومتابعة تنفيذها، وأعتقد جازما أنه من الخير لنا جميعا في هذا الزمن العربي الصعب أن يعود المسؤولون الحكوميون العرب لممارسة السياسة في الغرف المغلقة، والإعلان عن مواقفهم عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، وأن يتفرَّغوا لأداء واجباتهم في خدمة المواطنين وحل المشكلات الكثيرة التي تواجههم، بدلا من البقاء طول الوقت على شبكات التواصل الاجتماعي دون عائد يذكر سوى صناعة الأكاذيب وممارسة التضليل.

تعليق عبر الفيس بوك