عندما تكون الثقافة في خدمة الاستعمار!

د. يحيى أبوزكريا

لم تكن الثقافة في يوم من الأيَّام عاملًا لتكريس الدموية والاستئصال والتحريض على الكراهية؛ فالثقافة في بُعدها الحضاري عامل بناء وتكامل وانفتاح على الآخر.

وقد يحدُث أن تتباعد الرؤى الثقافية والفكرية بين المثقفين أنفسهم، وهذا طبيعي ومنطقي، لكن لا يمكن أن تنزل الثقافة إلى مستوى الغل والكراهية والتعامل بمنطق الاستئصال والإقصاء.

وهذا الكلامُ ينطبق على ما يُعرف بالليبيراليين الجُدد الذين نصبوا أنفسهم حكاما على الأمة العربية والإسلامية، وكل مكوناتها الثقافية وتركيباتها السياسية ومفرداته الحضارية؛ فمنهم من بات يدعو لإعدام هذه المجموعة، ومنهم من بات يطالب بمحاكمة هذا التيار، ومنهم من يجهر صباح مساء بتكميم أفواه هذا الفريق أو ذاك، وقد نجح الليبراليون الجُدد في اختطاف الثقافة من قاعدتها الحضارية الحوارية الانفتاحية إلى الدائرة البوليسية الأمنية الضيقة، متجاوزين أهمَّ مبدأ في الثقافة وهو ضرورة سماع الآخر والانفتاح عليه.

فماذا لو أتيح لهؤلاء أن يصلوا إلى الحُكم ويسوسوا الأمة، لكانوا عندها قد نصبوا أعوادَ المشانق، ولما اختلفوا قيد أنملة عن مكرسي الاستبداد في الراهن العربي.

ومصيبة المثيقفين العرب الذين نقلوا المفردات الثقافية الغربية والمدارس الفكرية الغربية كما هي، أنهم لم يكتفوا بتحريف هذه المفردات وإعطائها معانيَ إضافية لا تتحملها، بل زادوا عليها وأخرجوها عن سياقاتها، بل عرَّبوها في الاتجاه السلبي؛ فالليبيرالية الغربية لم تطالب بوأد الكنيسة وقتل القساوسة والتنكر للدين كما فعل الليبيراليون الجدد مع تيارات الإسلام السياسي، ومن يطالع الصحف الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والغربية بشكل عام لا يعثر على مقال واحد يطالب باستئصال الوطنية والحركات الدينية، وضرورة الارتماء في المحاور الإمبريالية على الصعيد السياسي والاقتصادي؛ فالليبيراليون الفرنسيون ما زالوا يعضون بالنواجذ على اللغة الفرنسية، ويطالبون بعدم التنازل عنها أمام اللإنجليزية الزاحفة، ومازالوا يطالبون بصيانة مكونات الأمة الفرنسية بما في ذلك الكاثوليكية المسيحية، والأمر عينه ينطبق على الليبيراليين الإنجليز والإيطاليين.

ويبدو أننا مصابون بداء تحريف الأشياء عن مواضعها؛ فالماركسية عندما عُربت فقدت كل محتواها، وزايد اليساريون العرب على كارل ماركس نفسه، وقوَّلوه ما لم يقله، وكذلك الأمر بالنسبة لليبيرالية الغربية التي وعندما عرَّبها أشباهُ المثيقفين قصوا من أطرافها وزادوها بعضا من العقد التاريخية والأيديولوجية، وكثيرا من الارتداد عن الموروث الحضاري لهذه الأمة.

وبدلًا من أن يستنفد هؤلاء الجهد والطاقة في محاولة ابتكار مدارس فكرية جديدة، في محاولة لإنقاذ العقل العربي من حالة العقم التي دخل فيها بعد وفاة أبي علي بن سينا، فقد راح هؤلاء يستوردون المدارس الفكرية الجاهزة، وهم بذلك لا فضل لهم لا في تأسيس هذا الفكر، ولا فضل لهم في ترجمته أيضا حيث ترجم مشوها وناقصا، بل اتخذوا من هذه المدرسة وتلك وسيلة للتخفي وراءها لإطلاق صيحات لا تمُت بصلة إلى الروح الجماعية لهذه الأمة.

فهل من الحرية أنْ يطالبَ بعضُ المثيقفين بإعدام وملاحقة من يختلفون معهم في التوجُّهات الفكرية؟! أليس أساس الليبيرالية الحرية والسماع للآخر بل والتضحية من أجل أن يقول الآخرون آراءهم بحرية مطلقة؟! ألم يكن من الأفضل أن يدعو بعض هؤلاء المثيقفين الذين يطالبون من عواصم غربية بضرورة استعمار هذه الأمة تمهيدا لتحريرها في نظرهم، إلى فتح حوار ثقافي واسع بين كل المنتمين إلى الخارطة الثقافية والسياسية في العالم العربي، في محاولة لخلق معادلة خلاص يسهم في وضعها الجميع؟!

أليس دعوات بعض الليبيراليين الجدد إلى استئصال تيارات بعينها من الواقع السياسي والثقافي والإعلامي هي عينها الديكتاتورية والتسلط والاستبداد!

إذن، أين الحرية التي يتبجَّح بها البعض، ويجعلها عنوانا ومنطلقا لكتاباتهم؟!

إنَّ واحدة من أهم أسباب تردِّي الوضع الثقافي في العالم العربي: بروز ظاهرة أشباه المثيقفين الذين أتقنوا الثقافة الببغاوية، ورددوا كل المفردات الثقافية والفكرية التي ولدت في مناخ فكري وثقافي مغاير جغرافيا وفكريا وسياسيا واجتماعيا.

والثقافة فعل إبداع وخلق، وليست ترديدَ فكرةٍ قالها داروين أو آدم سميث أو ديكارت أو فرويد، وتعريب كل ذلك، ونقله إلى المسرح الثقافي العربي.

ثم هذه الأفكار والمدارس التي وللأمانة لم تنقل كما هي إلى واقعنا العربي، ماذا حققت لنا عربيًّا على الصعيد الثقافي، فأين مسرحنا، ورواياتنا، وقصصنا، وفنُّنا التشكيلي؟!

أما كان الأولى بمثيقفينا أن ينطلقوا من روح هذه الأمة ليصيغوا منظومة ثقافية وفكرية من نسخ هذه الروح، وعندها فقط يقعُ التكامل بين هذه الأمة التي أُريد لها أن تجرِّب كافة الطروحات والمشروع الفكري والثقافي..

بل لقد وصل الأمر بدعاة مبدأ الحرية إلى أن يُباركوا مُصَادرة هذه الحرية تمهيدًا لبناءِ الحرية الموعودة.. ألم يُهلل هؤلاء للغارة الأمريكية الكُبرى على أفغانستان والعراق، والتي حل فيها خرابٌ ليس بعده خراب، ألم يكن بالإمكان أن نؤسِّس لنظريةِ التغيير من الداخل ليتسنى لنا صناعة الراهن والمستقبل على حدٍّ سواء، أم أن الثقافة في عُرف هؤلاء هي وظيفة سياسية تأتي بالتنسيق مع دوائر يهمها أن يضيِّع العالم العربي بوصلته، وهي المقدمة الضرورية لتحقيق الخطوات المقبلة؟!

لقد تحوَّل بعض الليبيراليين الجدد إلى مُفتين حقيقيين يطالبون بإعدام هذا ومحاكمة ذاك، وإذا كان المفتي يستند في فتاواه إلى الشريعة الإسلامية -علما بأن الكثيرَ ممَّن نصبوا أنفسهم لمقام الفتيا تطاولوا ظلما على هذا المقام- فإلي أيِّ شرعة يستند الليبراليون الجدد؟!

إذا قالوا سندنا الحرية، قُلنا فعالكم ودعواتكم تجافي الحرية.

وإذا قالوا النموذج الغربي، قلنا إن حرية التدين مبدأ مقدس في الدساتير الغربية.

وإذا قالوا سندنا المرجعية الإسلامية، قلنا يستحيل ذلك، فأنتم تطالبون باستئصال الإسلام من الواقع العربي والإسلامي!

فإذا لم يكونوا غربيين ولا مسلمين من حيث المرجعية الفكرية والإبستمولوجية، فماذا يكونون؟!

سؤال يرسم الليبيراليين الجدد.....!!