مناجم الذهب (2)

عائشة بنت أحمد البلوشية

مشى الطفل الذي لم يتجاوز السنوات الأربع عدة خطوات من أمام الصريدان (موقد النار) الذي يتوسط فناء الدار، ليتجاوز ذلك الباب الخشبي الثقيل، المحفور بنقوش بديعة وزخارف جميلة، وقف أمامه محاولاً أن ينظر إلى السماء، ولكن شجرة النارنج المغروسة في فناء الدار، تعانق شجرتي الفرصاد والجوافا الشامختين أمام الباب من الخارج، لتشكل تلك الثلاثية العجيبة خيمة طبيعية تعبق بروائح زكية، أخذ ينظر وهو  يتجه نحو "المنامة" المنصوبة إلى يسار المنزل إلى تلك القنطرة الصخرية المستريحة أمام المنزل، والفلج ينساب بفخر تحتها، فرفع بصره نحو نخلة "الهلالي" التي تظلل "المبرز" (و تطلق هذه التسمية على المكان الذي يتخذه الشيخ/ صاحب الدار متكأ بارزا له يستقبل فيه ضيوفه من الرجال أمام المنزل، مسور بسور من الجص ذي ارتفاع لا يتجاوز نصف المتر ترص عليه النمارق فوق حصير القش)، وبالرغم من حداثة سنه ولكنه أدرك بأنَّ عذوق الهلالي لم تتدل بعد، فقد رأى أحد البيادير في اليوم السابق يصعد جذعها وينبتها بذلك النبات الأبيض، الذي يخلف بعضاً من حبوب اللقاح، التي تأتي على هيئة دقيق أبيض داخل "الكيف" المغلف بين أكمامه تلك الزهور البيضاء التي تعد بموسم من الرطب الجني، وكم من مرة مسح خلسة بأصابعه الصغيرة بعضًا من تلك الحبوب وتذوق طعمها، ليجده طيب المذاق، وفي الجهة الأخرى لذلك المبرز المهيب تقف شجرة "النادان" التي يسند إليها أبوه الغائب ظهره كلما جلس في ذلك المكان المتناغم مع روح الطبيعة الغنية بتفاصيل لونية بديعة، ذلك الأب القوى البنية والشكيمة، الذي يضفي على المكان شيئاً كثيرًا من تلك القوة كلما تواجد فيه، حدث نفسه كم يشتاق لذلك الأب الوقور، وكم يفتقد المكان قوته وشجاعته، وقبل أن يرفع عينيه إلى السماء تساءل في داخله: هل أزهرت شجرة "البالنج" خلف المنزل؟،  تلك الشجرة التي طبعت طعم ثمارها في روحه، ذلك الطعم الغني بالحلاوة التي تغري طفلاً في مثل عمره كي يترقب وقتها كل عام، وبعد فترة من تقليب نظره في بعض غيمات تجول في صفحة السماء الزرقاء، نظر نحو الفرصادة وابتسامة تعلو محياه، فنادى على سلمى التي تعمل في داخل الدار، وطلب منها أن تقطف له بعضًا من تلك الثمار السوداء والحمراء، فقصر قامته لا يساعده على الوصول إليها، ويعلم أنها أكثر نسوة الدار تدليلاً وحباً له، التي ما فتئت تتذكر حتى أواخر أيامها -رحمها الله وغفر لها- كيف أنه كان يستغل ذلك الحب للزبدة الناتجة من اللبن المفصود، وحب سلمى له، ليجعلها تحمله واقفة وباليد الأخرى تحمل كرة الزبدة وهو يأكل منها حتى يشبع ذلك الاستمتاع الطفولي البريء.

كان طفلا هادئًا دائم التأمل في ما حوله من أشجار وطيور، ففي ولاية عبري في خمسينيات القرن الماضي، كانت مفردات الألوان تتباين في الأشجار والثمار، بل إن (باليتة) الألوان للشجرة الواحدة تتغير بعجب طوال فصول السنة، فالنخلة تشده ما بين خضرة الخلال، وصفرة البسر وحمرته أو بين هذا وذاك، ﻷنَّ هنالك بعض الألوان تحاكي لون الورد العُماني في توردها، مثل نخلة قش الحنظل، والبعض منها أعطاها الله اللون البرتقالي كبسور نخلة الفرض، ثم تبدأ تلك الأنواع الواحد تلو الآخر في التحول إلى الرطب، لتنتهي بالجداد في مواسم التمور المختلفة، بل حتى الأشجار الأخرى كالأمبا أو اللومي، ليست مجرد أشجار مثمرة له وحسب، حيث تكتسي حللاً متعددة ما بين خضرة وصفرة وابيضاض -بالنسبة للومي وقت إزهار البل-، واصفرار باهت - بالنسبة للأمبا وقت إزهاره-، ولكنه كان يعشق روائح اللومي والنارنج والبالنج، ولا يستسيغ رائحة زهور الأمبا، كل ذلك كان بمثابة دروس الفن التي يتلقاها والطبيعة هي المُعلم، ولن أكون مبالغة إن شبهته بأبي القاسم الشابي شاعر الخضراء، الذي عرف أيضًا بشاعر الأمل والتفاؤل، الذي تعلق بطبيعة قريته، وظل يجتر تلك اللقطات الفنية المخزونة في أعماق ذاكرته ليكتب أروع الأبيات في المهجر، بيد أن بطلنا في هذه الحلقات، لم يقرض الشعر وإن كان متذوقاً عالي الاختيار له، وربما مهجره -إن صح لي القول- في داخل بلاده عمان -كما سنرى- فقد أغزر من تعمقه في الجمال في كل شيء ليمخر عباب يمه الذي لا ساحل له.

تناهت إليه أصوات الرجال آتية من داخل سبلة والده، فدخل وجلس إلى جوار المدخل، فليس من الأدب تجاوز المجلس أمام الرجال، وظل صامتًا يُتابعهم وهم يستمعون إلى توجيهات عمه (عوض) -الذي يتوسط صدر المكان- ليشدوا الرحال إلى المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، لصغر سنه لم يكن يفهم معنى الرحيل أو طول الطريق، وقطع المسافات الشاسعة، في بيداء مترامية الأطراف، فقد قررت والدته السفر لحاقاً بوالده الذي يعمل هناك، وأخيها الذي استقر هناك واتخذ من الدمام سكناً له، وسمعها تتحدث لعمه عن قرب موسم الحج ورغبتها في أداء هذه الفريضة، رغم انتباهه لكل كلمة تدور في ذلك النقاش، كان يتأمل الحائط الطيني الممتد أمامه وكأنه لوحة فنية، حيث دهن الجدار نصفه الأسفل بلون خمري غامق، ودهن الجزء الأعلى بلون أبيض يفصلهما خط بلون التركواز، وعليه رسمت شجرة مورقة الأغصان، تتدلى منها بعض الثمار الحمراء، وقد راعى الرسام استخدام اللون الأخضر ليضفي عليها صبغة طبيعية، تتوسط ذلك الحائط نافذة خشبية تظل مشرعة على الضاحية الغربية فترة القيظ، ﻹضفاء بعض من النسمات الباردة المحملة بروائح البل المنعشة، وتغلق تمامًا فترة البرد في الشتاء، وتعلو النافذة روزنة صفت فيها سجارج من خزف أبيض تحمل نقوشا بديعة بنية اللون، وبرزت عدة أخشاب من الجدار (وتود)، ووسط هذا الجو المفعم بالتجهيزات لم يكن أحد لينتبه لحالة هذا الطفل المأخوذ بالإنصات إلى تفاصيل تجربة قادمة، بل ظلوا يتجاذبون أطراف الحديث حول عدد الرواحل، وكمية المؤن التي يحتاجون لحملها معهم، ومحطات السفر التي سينزلون بها خلال الرحلة، أما هو فقد كان يعيش مزيجًا من المشاعر المتضادة، فشعور الخوف يقلقه ﻷنه سيترك العراقي، ولا يعلم إن كان سيعود لها، أم أن المهجر سيعجب والده وسيتخذ منه سكناً مثلما فعل خاله، والشعور الآخر كان التشوق لركوب البعير، ورؤية بلاد جديدة، لا يعلم شكل نخيلها وسواقيها، فقد كانت بلدة السليف التي لا تبعد إلا حوالي سبعة كيلومترات من العراقي غربًا، هي أبعد مسافة رافق والده إليها، شيء ما في داخله كان يدفعه ﻷن يتمسك بالعودة لبلاده، فمهما رأى من جمال، لن يجد أجمل مما يراه حوله الآن.

(يتبع)..

توقيع:

"فأعبُدُ فيكِ جمالَ السّماء،

ورقَة َ وَرْدِ الرَّبيعِ الخضِلْ

وطُهْرَ الثلوج

وسِحْرَ المروج

مُوَشَّحَة ً بشعاعِ الطَّفَلْ"

أبي القاسم الشابي.