الكتلة الوطنية.. مقومات النجاح وعوامل التعثر (1-4)

عبيدلي العبيدلي

في نطاق مداولاتها الروتينية، تتوقف القوى السياسية البحرينية -المنظَّمة منها والعفوية- عند قضية الكتلة الوطنية. وتمارس القوى المنظمة منها مثل هذه الوقفة بين الحين والآخر، إما لأسباب تنظيمية داخلية محضة، وإما لإلحاح تطورات الواقع السياسي الذي بات ملحا يطالب بمراجعة جدية شفافة لجدوى معالجة هذا المسألة، وتلمس مدى قدرتها على انتشال الواقع السياسي من حالة الشلل، اعترفنا بها أم أصررنا على نكرانها، التي بات يعاني منها الحراك السياسي البحريني، وربما تعميم ذلك كي يشمل نظيره الخليجي.

وقبل التطرق لمقومات النجاح، ومعالجة عوامل الفشل، ينبغي الإشارة إلى قضية في غاية الأهمية؛ وهي أن تاريخ العمل السياسي العربي -ومن ضمنه البحريني- قد عَرِف مجموعة من المبادرات المضيئة التي انبثق أثناءها ما يمكن أن يُصنَّف على أنه "كتلة وطنية".

فعلى المستوى العربي، هناك "الكتلة الوطنية" السورية، التي تأسست في العام 1925، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي (1920-1946)، "بعد أن سمح المفوض الفرنسي السامي الجنرال سراي بحرية إنشاء الجمعيات والأحزاب السياسية، وكان التأسيس على يد مجموعة من السياسيين السوريين المطالبين بوحدة البلاد واستقلالها؛ ومنهم: عبد الرحمن الشهبندر مؤسس حزب الشعب أيام الملك فيصل الأول، والذي حلَّ في أعقاب زوال المملكة السورية العربية؛ وكان السبب الرئيس لنشوء الكتلة هو معارضة حكم الرئيس المعين من قبل الانتداب صبحي بركات.

وعلى مقربة من تلك الكتلة السورية، برزت -على يد مؤسسها إميل إده في العام 1943- "الكتلة الوطنية اللبنانية"، وقد تولى رئاستها في أواخر الستينات ريمون إده.

وفي المغرب العربي، هناك الكتلة المشكلة من مجموعة من الأحزاب، والمعروفة باسم "الكتلة الديمقراطية"، التي تضم أحزابا مغربية مثل "حزب التقدم والاشتراكية"، و"حزب الاستقلال"، إضافة لـ"الاتحاد الاشتراكي"، و"اليسار الاشتراكي الموحد".

وفي النطاق الخليجي، هناك التجربة الكويتية التي برزت في الثلاثينيات من القرن الماضي، وعرفت باسم "حركة المجلس"، عندما "برزت المطالبة بقيام المجلس التشريعي كشعار أساسي للحركة الوطنية، وقد رفض الشيخ أحمد مطالب التجار بقيام المجلس التشريعي، إلا أنه تحت ضغطهم وتهديدهم بمغادرة البلاد قَبِل بإجراء انتخابات للمجلس التشريعي".

أما الكاتب الكويتي أحمد الديين، والذي أولى تاريخ الديمقراطية في الكويت جل اهتمامه، فنجده يقول في كتابه "الديموقراطية في الكويت.. مسارها، واقعها، تحدياتها، آفاقها": إن "إرهاصات الحالة الديموقراطية بالكويت والتي دشنتها حركة عام 1921 التي طالبت بإصلاح الحكم، وجرى التوافق خلالها مع الشيخ أحمد الجابر حاكم البلاد آنذاك على إقامة مجلس للشورى مكون من 12 عضواً من الوجهاء، ولم يكن اختيارهم عن طريق الانتخابات، مثلما نصت الوثيقة، وترأس هذا المجلس الوجيه حمد عبدالله الصقر". وقد أخذ شكل تلك الحركة نوعا من أنواع "الكتلة الوطنية"، التي ضمت في عضويتها مجموعة مختلفة من الشخصيات الوطنية المنتمية لفئات مجتمعية مختلفة، وجذور فكرية ليست متطابقة.

وعلى المستوى البحريني، هناك ما يمكن تصنيفه على أنه نوع من أنواع الكتلة الوطنية، وإن كانت في أشكالها البدائية البسيطة مثل طليعة الحراك السياسي الذي عرفته البحرين في ثلاثينيات القرن الماضي. ففي العام 1938، خرج شعب البحرين مطالبا "بتأسيس مجلس تشريعي يمثل الشعب تمثيلا حراً"، تحت قيادة كل من سعد الشملان، وعلي بن خليفة الفاضل، وأحمد الشيراوي (والد الوزير السابق يوسف الشيراوي)، وإبراهيم محمد فخرو، ومحمد صالح الشيراوي". وانتهت تلك "المعارضة" "بالقوة؛ حيث أبعد سعد الشملان وأحمد الشيراوي إلى الهند، وسجن علي بن خليفة الفاضل وإبراهيم محمد فخرو، ومحمد صالح الشيراوي لمدة ستة أشهر".

ثم حملت الخمسينيات من القرن الماضي أيضا تجربة "هيئة الاتحاد الوطني"، التي يقول أحد قادتها -وهو عبد الرحمن الباكر- "بالنظر للأسباب الرئيسية المباشرة لتأسيس (الهيئة)، هي السياسات التعسفية التي اتبعتها الحكومة بتوجيهات من بلغريف، إضافة لما تزامن معها من مطالبات شعبية بالإصلاح السياسي والاقتصادي".

ولم تتوقف المسيرة، ففي مطلع السبعينات من القرن الماضي، وخلال التهيئة للمجلس الوطني، انبثقت "كتلة الشعب"، التي -كما يقول البعض عنها- "من الظلم تصوير كتلة الشعب في برلمان 1973-1975 على إنها مجرد تجميع سياسي/برلماني يمكن تكراره. فمثل هذا التصور يَتناسى أن التاريخ لا يعيد نفسه كما يقولون. لم تكن كتلة الشعب مجرد تجمع سياسي/برلماني، بل كانت ظاهرة سياسية/اجتماعية، وكانت ابنة وقتها". وعودة إلى تجربة مجلس 1973-1975، تكشف وجود أكثر من كتلة سياسية في ذلك المجلس عبرت كل واحدة منها عن انتماء سياسي مختلف، وجذور أيديولوجية متباينة بررت تلك التعددية.

حتى في مرحلة ميثاق العمل الوطني، عرفت ردهات حجرة المجلس المنتخب، تشكل تكتلات نيابية، البعض منها اقتصرت عضويتها على الجمعية السياسية التي تقف وراءها، والآخر منها تشكل من تنادي مجموعة من النواب، التقوا حول مجموعة من الأهداف المشتركة مثل "كتلة البحرين النيابية".

ويمكن لمن يريد العودة لتاريخ العمل السياسي الخليجي، وفي القلب منه البحريني، أن يجد العديد من المؤلفات التي تناولت مرحلة ما قبل استقلال دول الخليج العربي، ولربما يكون آخرها كتاب مفيد الزيدي، "التيارات الفكرية في الخليج العربي 1938-1971"، الذي "يهتم بواقع الفكر والتيارات الفكرية الفاعلة في الخليج العربي منذ نشوء الحركات الإصلاحية في الثلث الأول من القرن العشرين حتى مرحلة الاستقلال في السبعينات". الذي يؤكد بأن "تاريخ منطقة الخليج العربي (لم يرتبط) فقط بظهور النفط، وبتفاعلاته وبآثاره وحدها".

كان القصد من وراء هذا السرد القول بأن جذور فكرة تشكيل الكتلة الوطنية عميقة في تربة العمل السياسي البحريني. ومن ثم الدعوة لها، والترويج لمشروعاتها، ليست كما يتوقعها البعض، بدعة اخترعتها هذه الجمعية أو تلك، بقدر ما هي -كما حصلت في التاريخ- ضرورة تفرضها متطلبات المرحلة، وتلح عليها مقتضيات العمل السياسي، ونجاحها أو فشلها لا يكمُن في المبدأ ذاته، وإنما هو رهن بالقوى التي تقف وراء التأسيس لمثل هذه الكتلة، والبرامج التي تتبناها والطرق التي تسلكها من أجل تحقيق أهداف تلك البرامج.