قراءات في الأدب الصهيوني المعاصر:

الجيش في الوعي الإسرائيلي.."أراضٍ للتنزّه" نموذجًا (2)

أمين دراوشة – أديب وناقد - رام الله – فلسطين


في الحلقة السابقة تناولنا جزءًا من رواية "أراض للتنزّه" للكاتب الإسرائيلي "عوز شيلاح" وهي من حيث الشكل أقرب إلى مجموعة من القصص أو الشذرات القصيرة، وفيها يحدّثنا "شيلاح" عن كيفية خداع الوعي الإسرائيلي لنفسه عبر تجاهل الإنسان الفلسطيني والأرض الفلسطينية. وفي هذه الحلقة سوف نركّز على مؤسسة "الجيش في الوعي الإسرائيلي" من خلال الرواية ذاتها.
ليس خافيا على أحد أن الجيش الإسرائيلي يتشكّل من كلّ الشعب، فلا يكاد يوجد أحد لا يخدم فيه. وهو عنوان القوة والعزّة للدولة، لذلك من الملاحظ أن وجوده في الأدب الإسرائيلي يكاد لا يختفي، فأغلب كتاب إسرائيل من خريجي الجيش الإسرائيلي، بمن فيهم شيلاح نفسه الذي خدم كمذيع في إذاعة الجيش الإسرائيلي، لذلك يعرفون مشاكله وأمراضه. والدخول إلى الجيش لا ينعكس إيجابا على تصرفات الملتحقين به. وقد اهتمّ الكاتب في شذراته بتجربة الجيش، ومن الشذرة الأولى، يتمّ تذكيرنا بأن الجيش موجود في كلّ لحظة، حتى داخل العائلة الإسرائيلية الذاهبة في نزهة للتمتع بوقتها؛ ففي شذرة (ذات عصر) يقوم الابن بإشعال النار من أجل طرد البرودة اللاذعة، لأن أستاذ التاريخ سبق أن درّب "ابنه على مهارات التخييم التي اكتسبها في الجيش" ـ (ص7). وفي شذرة (الندم)، يجري الحديث عن الآثار السلبية التي تتركها الخدمة في الجيش على الشخص بعد انتهاء خدمته، فالخدمة وما تتضمنه من قتل لأناس أبرياء، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، ومن أعمال قذرة وقاسية بحق شعب أعزل، تسبب خللا نفسيا ينعكس على الجنود بعد تسريحهم.
وقد نوقش هذا الأمر كثيرا في الأدب الإسرائيلي، ففي “ابتسامة الجدي” لديفيد غروسمان، يكون الحديث عن الضابط فاكسمان، الناجي من المحرقة، الذي يدخل الجيش، لتزداد عقده النفسية، ويحطم نفسه ومن حوله، ويتمتع  بقتل الشعب الفلسطيني الأعزل حتى لا تعود له أيام اختبائه في حفرة تحت الأرض مع والديه، وهو يقول في رسالته إلى صديقة الضابط أيضا: "أردت أن أتحسس ـ بحث عن الكلمة المناسبة ـ النظام لا، ليس النظام، بل أسوأ؟ تعبيراته عن الظلم والمعاناة. المعاناة التي ألحقتها أنا نفسي بالآخرين. أردت تعذيب نفسي" ـ (غروسمان ص288)
أما بطل الشذرة، المسرّح من الخدمة العسكرية، فيفشل في كلّ عمل يقوم به، لأنه "لم يتمكن من التعافي من الخدمة في فرقة الموت" ـ (ص18). وينصحه صديقه المحامي بمقاضاة "وزارة الأمن لتسببها في عدم مقدرته على التأقلم مع عمل جديد" ـ (ص19)
وتحتلّ مؤسسة الجيش حيزا كبيرا في وعي الإسرائيلي، فلا تترك شيئا إلا وتستغله. ويحدثنا الكاتب عن الألم والأرق والقلق الذي يسببه الالتحاق بالجيش والتسريح منه، مع بقاء المسرّح الشخص ملتحقا بالاحتياط، ما يعني الخدمة من 30-40 يوما في السنة. وبطل الشذرة (المادة-21) يعاني الأرق، ويزداد أرقه واضطراب نومه بسبب الخدمة الاحتياطية. وحين يستشير محاميا، ويسأله عن الطريقة التي يمكن له أن يتخلص بها من نوبات الاحتياط، يقترح عليه المحامي مراجعة ضابط الصحة النفسية لحلّ المسألة، لكنه يرفض التسريح بسبب الاضطراب النفسي، فيسأل المحامي: ماذا إذا غير دينه إلى الإسلام؟ وبالفعل يغير دينه ويتخلّص من نوبات الاحتياط، لكن المفاجأة تكون عندما يتسلم كتاب التسريح، المتضمن الاستغناء عن خدمته وفق المادة المتعلقة بالاضطراب النفسي!
ويتناول الكاتب في شذرة (معفى عنه) قصة مجند، وما كان يستمتع به في عمله. يقول المجند: "إنه لم يندم على الخراب الذي أحدثه" ـ (ص42)، وإنه لم يتم توقيفه في الشرطة العسكرية سوى يومين، فالخراب الذي أحدثه يتعلّق بالعرب، والاحتلال يفرّق بين المواطن الإسرائيلي والمواطنين الآخرين الأقل شأنا، وما كان المجند وزميله يعملانه، هو أنهما كانا يتسللان من الثكنة العسكرية إلى سفح الجبل ليلا، لمراقبة السيارات العربية، ودحرجة الصخور عليها عند قدومها مارة في الطريق. فهل مثل هذا العمل المسلي، يستحق العقاب؟
وفي واحدة من الشذرات النادرة التي يكون بطلها إيجابيا، ويرفض ما يمارسه الجيش بحقّ الفلسطينيين، وهي شذرة (ما يطلبه المستمعون)، ينتقد البطل من قبل رجل على طريقة حديثه في برنامج اتصال المستمعين، يقول إنه: "كان عليه أن يبدو متدينا، وان يتعلّم ماذا يعني أن يكون يهوديا"؛ فيرد عليه قائلا: "إن الكلام كان طريقته الخاصة ليصير قريبا من الله"، وإنه يملك الحق في الحديث ليسمع كلّ الناس "عن إطلاق المليشيات النار على الفلاحين، واقتلاع أشجار الزيتون على مرأى من الجيش" ـ (ص45)، وهذا ما يحدث حقيقة على أرض الواقع، إذ تقوم عصابات المستوطنين المسلحة بإرهاب الفلاحين الفلسطينيين وتدمير أشجارهم المثمرة وحرقها تحت سمع الجيش الإسرائيلي وبصره، وهو يشارك إذا اقتضى الأمر في قمع الفلاحين الفلسطينيين.
وينتقد عوز شيلاح المؤسسة العسكرية، كخبير بها كونه خدم فيها، ولا يكتفي بالاحتجاج على الممارسات القاسية بحق الفلسطينيين، بل يتطرّق أيضا إلى المصاعب والمشاكل النفسية التي يعاني منها من يخدمون في المؤسسة العسكرية، فيحدّثنا عن الأستاذ المتخصص بالطبّ النفسي في شذرة (أعراض)، الذي لا حديث له إلا عن أعراض الناجين من الصدمة، والذي له خبرة شخصية بذلك، فوالداه من الناجين من المحرقة، وابنه أصيب بالهوس والاضطراب النفسي بسبب خدمته في الجيش، والأستاذ نفسه بالتأكيد يعاني أيضا من الصدمة. أما أعراض الصدمة حسب وجهة نظره فهي: "عدم الامتثال، والنشاط الزائد، وصعوبات الكلام، والسلوك العدوانيّ أو الانسحابي". وهو يعطي مثلا حياً عن آثار الصدمة، فيقول أن ابنه بعد إنهاء خدمته العسكرية، سافر إلى نيويورك، وهو يقضي بعض وقته على مخرج الطوارئ ينظر إلى الطريق، "يطوّر إحساسا نادرا بالسعادة وتصاعداً في الأفكار". ويكتب الابن عما رآه: "شخص صغير واحد من السابلة يقطع الطريق مندسّا بين السيارات، محاولا أن يجتلب أنظار السائقين" ـ (ص55). ويجري الحديث هنا، عن إنسان يعاني، ويبحث عبر السير وسط السيارات المارّة، عن العطف والمشاركة المفقودة: فبعد الانتهاء من الخدمة في الجيش عليه أن يواجه مصيره المضطرب وحده، فالجيش هنا يصّور على أنه مؤسسة تجلب الدمار والتحطيم النفسي لمن يلتحق به.
وفي رواية تتضمن نقدا قاسيا لمؤسسة الجيش ودولة إسرائيل، يتناول الكاتب في شذرة (مناعة) قضية امرأة قتل أخوها الذي لا تملك في الحياة سواه بنيران صديقة، تتزوّج من رجل أحبته رغم تقدمه في السن، يعمل في الإعلام، يقدم على "اغتصابها في الليلة التي التقيا فيها" ـ (ص56). ويقول المترجم الدكتور عبد الرحيم الشيخ، إن رجل الإعلام يمثل هنا "إسرائيل التي اغتصبت قضية يهود العالم لتتولى، من بعد، مهمة الاعتناء بهم" ـ (الشيخ، ص88).
وقد فشلت إسرائيل والحركة الصهيونية في الاهتمام بقضايا اليهود، وخلقت مجتمعا متناقضاً متناحراً، لا همّ له سوى التأهب الدائم للحرب القادمة مع محيطه. إنه مجتمع مريض ومليء بالاضطرابات النفسية. وعالجت الحركة الصهيونية مسألة المجازر التي ارتكبت في حقّ اليهود في أوروبا على حساب الشعب الفلسطيني، حيث تمارس الضحية السابقة دور الجلاد ضد شعب سيء الحظ. وفي شذرة جميلة، هي (مصاب بالحنين)، يتحدث عوز شيلاح عن نفسه، فيقول إنه يشعر بالحنين الدائم: ففي الروضة كان يحن إلى مربيته، وفي الابتدائي كان يحنّ إلى الروضة، وفي المدرسة الثانوية كانّ يحن إلى الابتدائية، "وبعد الانتساب إلى الجيش صرت أتوق إلى الروضة ثانية". وبعد أن أنهى خدمته، وبدأ يتلقى العلاج النفسي، أخذ يحنّ إلى طفولته المبكرة، ويعاني من النكوص، فلم يجد حلا سوى أن "استقللت طائرة وغادرت إسرائيل محتشدا بتحرّر مرّ من الوهم وأمل بالمستقل" ـ (ص57).
وفي شذرة (مياه مسروقة) يتحدّث عن عملية فدائية، سمع وقرأ عنها بعد أن تخرّج من المدرسة، وقبل أن يلتحق بالجيش. وفي ذكرى التخرّج، جمعهم المدير، وهم يرتدون الألوان الوطنية، وقرأ على المشاركين أسماء الخرجين الذين قتلوا في الحروب: في كل سنة، كما يقول المدير: "نخبركم بأملنا ألا تكونوا، أنتم الشباب، مضطرين للخدمة العسكرية، وألا تذهبوا للحرب. ولكنني آسف للقول بأن ذلك اليوم لم يأت بعد" ـ (ص58. وتعتمد إسرائيل في حياتها على إبقاء شعبها تحت الضغوط، وإيهامه دوما بأنه مهدّد، لذلك لا بد من الاستعداد الدائم للحرب، لأن الأعداء يتربّصون به من كل جانب؛ فاليوم التي لا تخوض فيها إسرائيل الحروب لن يأتي أبدا.

تعليق عبر الفيس بوك