موعد مع الحزن

هالة عبادي - سوريا


لم تستطع تمييز صوت مراد حين اتصل كانت تنتظر أن يبشرها ضاحكاً حين يصل، لكنه اتصل قبل أن تمضي نصف ساعة على خروجه من البيت، إنه يبكي تمنت لو أن الأمر اختلط عليها نتيجة إصابتها برأسها وداخل أذنها لكنه أعادها عليها ثلاثاً... حنان ماتت.
كلاهما أفلت منه كل شيء... لماذا اختارها هي لمثل هذا الخبر وهي العاجزة تماماً في سريرها بعد تلك الإصابة المروعة التي كادت تودي بحياتها لاذت بالصمت وفي داخلها تدور آلاف الأسئلة... من الذي اغتال السعادة كيف حدث هذا ولماذا؟ أي أقدار تحملنا لنا هذه الأيام؟ طافت بها صورهما، طفلان بحي شعبي في مدينة كان للبساطة شأنها في نظم طبيعة العلاقات الاجتماعية بين أهلها، حفيدان لعائلتين تجاورتا في ذلك الحي وقامت بينهما علاقة ودية، بل لنقل أنها تجاوزت الود إلى ما هو أكثر، ببراءة وعفوية كانا يقتسمان الوقت والألعاب أيام العطل إذ كان كل منهما يعيش في مدينة، كانت أمه تحلم بأكثر من ذلك عبرت عن هذا يوم تخرجت حنان من الجامعة أسرت إليها ببعض الكلمات.
-    "أريد خطبة حنان لمراد"
-    وهل جننت... لا تعرضي نفسك لموقف محرج.
وعلى الرغم من مواصفاته الشخصية العالية وكفاءاته حال اختلاف ظروف العائلتين واتجاهاتهما الفكرية بينها وبين هذا الحلم وماتت قبل أن تدركه حقيقة، لكن إرادة الله شاءت أن تعوضه عن فقده لأمه - وهو الأكبر والأكثر طيبةً وحناناً بين أخوته - فرتبت الأقدار لتحقق أمنية الأم ورغبتها بزواجهما وها هما يعيشان معاً كأسعد زوجين واستطاعت على الرغم من تواضع جمالها بغنجها وأناقة تعاملها أن تأسره، لم تمنحه قلبها فقط؛ بل حبها وكل حياتها فكان كأنما عرف السعادة فيها ومعها.
لقد جمعت حلمه وحلم أمه معاً، وملأت حياته كما ملأت قلبه بالسرور والفرح، ولحبها الشديد له اتسع قلبها لأهله ومحبيه وكانت الأقرب لهم جميعاً، انزلقت البلاد إلى أرومة غير معروفة الملامح وكانت فيها معه جنباً إلى جنب ترحب بكل الوافدين إلى مدينتهما عندما اضطر الكثير من الناس للرحيل عن بيوتهم نازحين ولاجئين.
21/5 كان يوماً حافلاً بالشقاوات فيه كانا يستعدان لاستقبال مولودهما الثالث، وقد امتدت الأزمة لتطال نيرانها مدينتهما الوادعة.
 كانت ليلة من أقسى الليالي وأطولها على المدينة "ليلة ولادتها تلك" فالأمور في المدينة تسير على نحو سيء للغاية ولم يتوفر لها مكاناً لولادتها القيصرية سوى مشفى كئيب سيطر عليه المسلحون وحولوه لمشفى ميداني، كان للرهبة والتوتر دورهما في مضاعفة ألمها وزيادة وضعها سوء وليكتمل النحس ليلتها تعرضت لنزف حاد لم تسعف كميات الدم التي أحضرها في تعويض فقر الدم الذي أحدثه لديها، خرج تحت وابل من القذائف لا حارس له إلا روح أمه وعينا حبيبته المتعلقتان بطفليهما وبقية أمل بالحياة معاً.
الظروف في المشفى تزداد سوءًا مع تزايد أعداد الجرحى والمصابين، الضجيج، رائحة الدم، ومناظر الرجال المدججين بالسلاح كانت تحيط بها بدلاً مما كان يعده لها في سابق ولادتها وما اعتادته منه من أبهة ومن عطور وزهور.
ترك سيارته أملاً بأن يكون أسرع في نقل ما تحتاج إليه من دم و دواء، حاول جاهداً عمل ما بوسعه لأجلها، لكن أحداً لم يتوقع ما كانت ستؤول إليه الظروف، للحظات نسيا الألم والتوتر والتعب، ابتسمت واحتضنت وليدها، ثم غفت في سبات عميق......
كان الأطباء يخبرونه أنها قد أجهدت قليلاً وأنها ستحتاج لشيء من الراحة، لكن غفوتها طالت وازداد وضعها سوءًا كما ازدادت ظروف المدينة خطورة، وانتقل بها بين الجثث والدمار ليشق طريقاً لهما إلى المطار أملاً بأن يجد لها علاجاً في مشافي العاصمة، كان يحملها وكله أمل بأن تعود معه، ارتجف قلبه هلعاً على متن الطائرة إذ كان المضيف من القسوة بحيث قال له وهو يتأمل لونها الأصفر الغريب وثقل حركتها "كأنك تحمل جثة" .
لكنه بقهر نفى وأكد أنها مرهقة من الولادة فقط.
أدخلها إلى أفضل مشافي العاصمة "أليس من طريقةٍ لأشتريها" سؤاله الذي سأله يوم وفاة أمه لكن إصراره لم يعد كافياً لإعادتها للحياة، وقف يبكيها بدموع كالجمر، لم أتأخر أنا ياحنان لقد كانت القذائف، كنت أركض بين الرصاص، تعلمين أني لم أكن لأبخل بروحي كي أفتديك، هكذا كان يبكيها بين جموع المودعين الذين جاؤوا لزفافها الأخير.
كانت عيونه تقول عذراً أيتها السعادة لم أختر أن أبعدك عن حياتي، لي موعد مع الحزن، فقدري أن أحياه فصولاً في حياتي....  أعتذر إليك حبيبتي فقد سرقتك مني ولادة كانت في زمن الحرب.

تعليق عبر الفيس بوك