صنعتُ بحرًا و سيجارة


(1)

"سيجارة"

نيران الطرابلسي - تونس


حين تمّ قبولي للعمل بعيادة في حي "التضامن"، ترددت قليلا قبل الذهاب، ليس لأن العرض لم يعجبني؛ بل لأني أعرف أنها ستكون مهمة صعبة جدا عليّ، أن أعمل في ذلك الحي الذي لا يحترم فيه أحد الأخر، سيكون عليّ أن أنتبه كل يوم للباسي،  يجب أن يكون السروال فضفاضا والفسان طويلا، و أن أنتبه أكثر لحقيبتي وهاتفي، لم أكن أعرف الكثير عن ذلك الحيّ سوى ما يتداوله أصدقائي وأقربائي، حي بالعاصمة مليء بالقذارات، عدا ذلك لا أعرف عنه شيئا، كانت أصعب مهمة بالنسبة لي، بعد نوعية اللباس، العثور على مقهى تدخله النساء، تجولت في شوارعه وأنهجه حتى بلغ مني اليأس مداه، وحين كلت قدماي دخلت مقهى مكتظا بالرجال، شربت قهوتي على عجل متحاشية النظر إلى الوجوه التي تتفحصني،  في الحقيقة لم أفعل شيئا يجلب الأنظار، فأنا لست سوى امرأة بسيطة وعادية جدا.
كنت بحاجة لمكان أجلس فيه كل صباح حتى يأتي مديري لأخذي للعمل، ولا أحب الوقوف والانتظار في الشارع، كما أني أخاف أن أحضر متأخرة إن شربت قهوتي في مقاهي العاصمة..  رواد المقهى تعوّدوا عليّ تدريجيا، يحيونني كل صباح، وإن كانت طاولتي مشغولة يقوم الجالسون ويتركون لي المكان كي أكون على راحتي، وإن حدث وغبت يوما يسألونني في الغد إن كان غيابي خير ..
أنا أيضا تعودت على وجوههم.. لكن من سوء حظي أني أعمل مع الأطفال، فلا يمكنني أن أدخن في مكان العمل، خوفا على أطفالي وأجسادهم الصغيرة، فكنت أخرج في منتصف النهار بحثا عن شارع خال من المارة حتى أدخن على راحتي ومزاجي.
في هذا الحي عيب كبير أن تدخن امرأة في سرّها، فما بالك أن يكون ذلك علنا وفي الشارع، احترمت عاداتهم، و اكتفيت بالتدخين خلسة سيجارة واحدة في منتصف النهار، في المساء حين أخرج وبعد أن يوصلني مديري إلى المحطة، أشعل سيجارة وأفتح كتابا في انتظار وصول المترو، كان أجمل ما في عملي في هذا الحي هو المسافة التي أقضيها في القراءة وأنا في المترو، كنت أقرأ ما يقارب عشرين صفحة في الذهاب، ومثلها في العودة، وبضع صفحات في المحطة على حسب وقت الانتظار...
اليوم خرجت من العمل بمزاج سيء جدا، أشعر أن رأسي سينفجر في أي لحظة، بوادر الانفلونزا ظاهرة على ملامح وجهي، كلّ ما أفكر فيه برغبة شديدة قهوة وسيجارة وسرير دافئ،  أنزلني مديري كالعادة في المحطة، أشعلت سيجارة وفتحت كتابي لأواصل من حيث انتهيت، باحثة عن خيط الحكاية الذي سيشغلني عن كلّ هؤلاء العابرين.. بعد دقائق ليست قليلة أتى المترو، صعدت وحين هممت لأكمل القراءة، اقترب مني رجل، مد يده وأغلق الكتاب، ثم همس:
-  في المرة القادمة لا تدخني في المحطة، ولا في الشارع مفهوم؟.
أصابني كلامه بالهلع والخوف والارتباك، كنت في حالة صدمة حقيقية، وكانت الأسئلة تتكاثر في رأسي، من يكون هذا الرجل؟ ماذا يريد؟ لماذا هو مهتم بما أفعل لهذا الحد، ومادخله في تصرفاتي الشخصية جدا؟، ودون تفكير طويل قلت في انفعال:
- وما دخلك أنت؟ هل دخنت في منزلك؟، لا شأن لك بما أفعل.
عدلت جلستي لأفتح كتابي، فقال:
- لماذا تصرخين،؟ قلت لك لا تدخني، يعني لا تدخني.
- سأدخن ولا شأن لك بي، ولا دخل لك في حياتي وفي تصرفاتي.
 وهممت بالوقوف لأغير مكاني. لكنّ صفعته أرجعتني، وفي حركة سريعة رددت له الصفعة وأعقبتها بركلة، لكن صفعته الثانية أطاحت بي أرضا، فكنت بحاجة لبعض الوقت لأعيد توازني، وحين وقفت كان يهم بالابتعاد وهم يتمتم ويقول كلاما غير مفهوم، مسكته من معطفه بقوة ولم يكن يدور في خلدي سوى قتله، كنت مستعدة لخنقه بيديّ الصغيرتين، مستعدة لفعل أي شيء إلا أن أتركه ينصرف بسلام.. لكن المترو توقف فأفلت يدي ونزل مهرولا.. أحزنني جدا أن لا أحد في المترو تكلّم أو تحرك من مكانه.. كانوا جميعا منسجمين مع المشهد السينمائي الواقعي، وقد أعجبهم العرض.. مسكتني من يدي فتاة عشرينية وأخذت حقيبتي وكتابي، وأجلستني بجانبها، حاولت أن تواسيني ببعض الكلمات، لكني صرخت، وظللت أصرخ بأعلى ما يمكنني، شتمت، استعملت كلّ الكلمات البذيئة التي أعرفها والتي لا أعرفها، حتى الكلمات التي لم يسبق لي أن استعملتها جاءتني من دون وعي أو تفكير، وقتها فقط سمعت أصواتا كثيرة:
- "يزي، احشم راك طفلة"
- "وكان ضربك ماو راجل"
- "عادي تكبر وتنسى".
- " وانت علاش تتكيف في الشارع ما تكيف في دارك ولا لوح عليك".
- "نستخايلوه صاحبك".
- "يزي نساء كبار عيب عليك الي تقول فيه"
كان الجميع  يبدي رأيه في ما حصل بصوت عال، ضاعّ كل ذلك الصمت الذي كان يسود المكان قبل قليل.. أنزلتني الفتاة من المترو لأني كنت حقا في حالة هستيرية، لم أكن أشعر بأي انتماء لهذا الرهط من البشر، احتواني شعور رهيب بالغربة، كنت ضائعة تماما، وهي تسحبني من يدي في شوارع متفرعة، كنت تائهة في أنهج كبرت فيها، وتعلمت فيها، كنت أشعر أن البلاد تطردني، وأن حقد الناس يبتلعني، فيملأني حقدا أخر، كنت أمشي وأنظر للوجوه بحقد كبير، برغبة كبيرة في القتل.. ولم أفق إلى في المستشفى،  لا أعرف كيف سقطت في وسط الشارع مغميا عليّ..
(2)
"صنعت بحرا"..
حين كنت صغيرة، كنت أخاف البحر أتخيل نفسي أختنق في كل مرة أراه.. لا أحب السباحة، ولا أجيدها.. أحب أن أبقى قريبة منه فحسب.. أنظر إليه في صمت.. وفي صمت أشاهد أجساد النساء العاريات.. وصدور الرجال البارزة.. أشاهد قصور الأطفال وهي ترتفع بارتفاع أنفاسي كلما اقترب مني طفل يغازلني أو يدعوني للعب..  وكنت لا أعرف كيف أبني القصور، ولا أجيد السباحة، وأخجل من مغازلة الصبيان.. لكنّي أحب هذا الشعور حين يسحبني طفل من يدي هامسا لا تخافي أنت معي.. ثقي بي.. أحب أن أضغط على يديه في كل مرة أشعر فيها بالاختناق.. وأن تتلامس أجسادنا في كل مرة يهيج فيها البحر.. كنت أفتعل الغرق مرات عديدة ليعانقني.. لكثرة حبي للعناق وأنا طفلة.. كنت أمشي وأعانق الأشياء.. الشجر.. الكراسي.. الأبواب.. النوافذ.. الحيطان.. كلّ شيء.. و كان أكثر ما أحبه هو ذلك الشعور بالأمان حين يعانقني أي أحد.. أي أحد... أرخي يدي تلقائيا وأنغمس في الأجساد.. أحبس أنفاسي لأشعر بالحياة والأمان..  حين كنت صغيرة في العاشرة على ما أذكر.. كان جسدي ينمو تدرجيا.. وكنت أحب أن أبقى عارية في غرفتي.. أتأمل يدي.. ساقيْ.. أصابعي.. بطني.. سرّتي.. أرى كيف أكبر بسرعة.. كنت أحب لوني.. لوني أكثر ما أحبه.. كنت أكتب عليه أسماء الذين أحبهم.. ثم أمحيها.. وهكذا إلى أن أتعب وأنام عارية. أذكر أنه ذات صيف تركتنا أمي في البيت وذهبت لزيارة أحد أقاربنا رفقة أبي.. فقمت انا وأختي وأولاد الحي بإفراغ الصالون من كل الأثاث.. و ملئنا الغرفة بالماء وبقينا نرش بعضنا.. ثم نسكب الملح على أجسادنا الصغيرة و نتذوق أجساد بعضنا البعض.. ونصرخ بأعلى أصواتنا.. البحر المالح في بيتنا.. البحر فينا.. بذلك العمر كنّا قادرين على خلق الفرح.. على خلق كل شيء.. نصنع بحرا.. ونغرق فيه.. نصنع حبا ونعيش به وله.. لن أنسى أبدا وجه أمي حين رأت الغرفة فارغة من الأثاث و ممتلئة بالمياه.. لن أنسى أبدا كيف عانقتنا بحب وسعادة.. شعرت حينها أنها قضت حياتها تحلم بالبحر في حين أنها كانت تستطيع أن تفعل مثلنا فتصنعه أينما شاءت وحيثما شاءت..

تعليق عبر الفيس بوك