الحياة الاجتماعية في عمان (1750 ـ 1850م)

نماذج من الظواهر الاجتماعية العُمانيّة (6)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

كانت الأخلاق هي الأسلوب الذي عبـّر بواسطته العمانيون عن شخصيتهم، فاتصفوا كغيرهم من العرب بالعديد من الصفات والأخلاق الحسنة مثل الكرم والشجاعة والتواضع وحب العمل وغيرها، وفي المقابل وجدت بعض المظاهر الاجتماعية السلبية مثل التعصب القبلي وعمليات الثأر والانتقام والإيمان بالشعوذة والخرافات وغيرها. ويتحتم علينا دراسة هذه الظواهر ـ الإيجابية منها والسلبية ـ بروح العصر الذي كانت سائدة فيه.


(1)    ظاهرة الأمن والتسامح الديني:
إن ما توفر من معلومات موثقة تعود ـ في معظمها ـ لزوار ورحالة أجانب زاروا عمان، وتعطي المعلومات والانطباعات التي خرجوا بها ملامح عامة لطبائع العمانيين وأخلاقهم، فالإعجاب قد تملك الأوربيين الذين زاروا مسقط في مهام تجارية وسياسية نظير ما يكنه أهل هذه المدينة لممتلكات الآخرين، وقد أعرب أحد وكلاء شركة ليفانت Lefant الانجليزية الذي زار مسقط في عام 1755م عن دهشته قائلا : " ... هناك في الوقت الحاضر كميات هائلة من السلع والبضائع مكدسة على الطرق من غير رقابة أو حراسة عليها، إذ لا توجد مستودعات لخزنها، ومع ذلك لم نسمع عن حادث سرقة أو سطو على هذه السلع أيا كان ". وبعد عشر سنوات ـ أي في 1765م ـ زار عمان الرحالة الدنماركي كارستين نيبور وخرج بنفس الانطباع سالف الذكر.  كما أشار إلى ذلك أيضا بارسونز بقوله : " ... وبدا لي أن مسقط مدينة ذات أهمية تجارية كبيرة إلا أنه لا توجد بها مستودعات لحفظ السلع التي تترك على الشاطيء إلا أنها لا تتعرض للسرقة ...". وكان من بين أسباب توجه الحكام البوسعيديين نحو حسن معاملة التجار الأجانب والأقليات رغبتهم في خلق جو من الانتعاش الاقتصادي ، ومن الدلائل على ذلك ما ذكره الرحالة سرفيوبوف فريزر Frieser الذي وصف رحيل الأوروبيين عن بندر عباس واتجاههم إلى مسقط في عام 1782 بسبب أهمية موقعها الآمن ، ووفرة إنتاجها ، والحرية الكاملة التي يتمتع بها التجار هناك برعاية حاكمها.

وعلى الرغم من روح التسامح التي تحلــّى بها العمانيون منذ القدم إلا أنه لا يوجد لدينا ما يشير إلى أن البوسعيديين سمحوا لغير المسلمين بمزاولة  أى نشاط اجتماعي أو ديني في المناطق الداخلية من عمان. ومن جانب آخر عقد نيبور مقارنة بين وضع الأقليات الاجنبية في مسقط وأوضاعها في بعض حواضر العرب حيث قال: " ... وعلى حين يرغم الهندوس في اليمن على دفن موتاهم فإنهم هنا ـ يقصد في مسقط ـ يستطيعون أن يحرقوا موتاهم بكل حرية، ودون تدخل من السلطة الحاكمة".

(2)    حسن الضيافة والكرم:
ومن الصفات الإيجابية شيمة الكرم، فقد ذكر الإيطالي موريزي الذي خدم في جيش السيد سعيد بن سلطان خلال الفترة من 1809 إلى 1811 قائلا: "إنهم كرماء ولا يأنفون من تناول الطعام مع النصارى". كما وصفهم البحار والكاتب البريطاني بيكنجهام   Bekingham أثناء زيارته مسقط عام 1816م بقوله : " إن سلوكهم على جانب كبير من الأهمية، كما أنهم يتحلون بقدر كبير من الجدية وقلة الكلام، ومع ذلك فهم مرحون وراضون عن أحوالهم، أضف إلى ذلك دماثة طباعهم التي لولاها لكانت برودة مزاجهم منفـرة للغير. إن أهالي مسقط ـ كما يبدو لي ـ أنظف وأحسـن هنداما وأرق معاملة من جميع العرب الذين التقيت بهم حتى الآن، وإن الإنسان ليشعر من أول وهلة يلتقي بهم بشعور الثقة والألفة وحسن النية من جانبهم ". وقد أشار الطبيب الأمريكي هاريسون الذي خدم في مستشفى الإرسالية الامريكية في مطرح في ثنايا مذكراته عن تنقلاته في مناطق عمان أثناء عمله فيها إلى أن العمانيين لا نظير لهم في المجاملة وضيافة الغرباء، وروى عددا من الحوادث التي تدلل على إيثار العمانيين لضيوفهم، وتقديمهم لهم ما يحتاجونه من الغذاء و وسائل الراحة الممكنة.

وإجمالاً تعتبر العادات والتقاليد لون من ألوان الحضارة والثقافة، وهي تتشابه ـ بطبيعة الحال ـ بين أقطار الأمة الواحدة، وهكذا فإن العادات والتقاليد العُمانية هي جزء من منظومة العادات والتقاليد العربية والإسلامية، وليس هناك اختلاف في المثل والقيم العامة، إلا أن هناك خصوصيات في الممارسات الإجتماعية لكل بلد. وبالتالي توجد بعض الفوارق الطفيفة عند ممارسة بعض الأعمال والأنشطة ذات الصبغة الدينية كالاحتفال بختمة  القرآن الكريم، و الاحتفال بدخول شهر رمضان المبارك و بعيدي  الفطر والأضحى ، كما تتشابه مظاهر الاحتفال بالزواج . بينما تبرز من الخصوصيات الاجتماعية العُمانية عادة الاستعلام، والمقصود بها قيام المضيف أو المقيم في أي قرية أو مدينة عُمانية بسؤال الضيف عن أحواله ساعة ما يلقاه، و عادة ما تكون صيغة السؤال : هل من أخبار لديك؟، و يأتي الرد عادة بصيغة : لا شيء إلا أخبار الخير والسرور، حتى لو كان لديه عكس ذلك من أخبار . إذ يخبر بما لديه بعد أن يستريح ويقوم مضيفه بواجب الضيافة. وهذه العادة من الموروثات الاجتماعية القديمة التي لا زالت تستعمل في عمان إلى الآن. ولا تقتصر هذه العادة في السؤال عن أخبار الضيوف والغرباء بل إن المقيمين في القرية الواحدة وحتى الأقارب منهم يسألون بعضهم البعض ، وتتكرر هذه العملية في بعض مناطق عمان كلما التقى شخصان أو مجموعة أشخاص حتى لو لم يمض على افتراقهما إلا ساعات معدودة. وفي عرف العُمانيين أن عدم سؤال الضيف عن أخباره هي إهانة لا تغتفر، لذا نجد أن هذه العادة لا زالت موجودة في عُمان حتى الآن. أما جذورها التاريخية فيتعذر استقصاؤها ، وربما يكمن السبب وراء ظهور هذه العادة في أن وسائل الاتصال في القرية العمانية كانت تعتمد قديما على أساليب الإتصال الشخصي باعتبارها وسيلة أساسية لنقل الأخبار وتلقيها عن العالم الخارجي ، كما أن عادة الإستعلام تعتبر بمثابة مفتاح الحديث ومدخل الحوار بين الضيف ومضيفه وبين الغريب والمقيم،  وتعتبر تمهيدا ومقدمة للحوار حتى يحصل الأنس بين الطرفين.


(3)    بعض المظاهر الاجتماعية السلبية:
ظهرت في المجتمع العُماني بعض المظاهر السلبية ومن ذلك مثلا ظهور الخرافات، فقد ذكر الطبيب الإيطالي موريزي أنه كانت لديه خادمة تعمل في منزله لكنها لم تستمر في خدمته طويلا، إذ كانت كثيرا ما تعبر عن قلقها وتخوفها الشديد من أن يقدم على أكلها ، وذلك في إطار ما هو شائع بوجود سحرة يستطيعون أن يمسخوا الناس في شكل حيوانات، وهذا يشبه ما أورده ويلستد في مذكراته عندما قال بأن كثيرا من العمانيين يعتقدون بوجود قوى خارقة للسحرة والمشعوذين، وخصوصا بتحويل الناس إلى أغنام، وأن تعساء الحظ من الذين مسخوا إلى حيوانات توجد فيهم علامات تدل عليهم بعد مسخهم، ولذلك ترى البدوي عندما يزمع شراء معزة يطيل النظر فيها فاحصا متمعنا، وهكذا تنتشر مثل هذه الخرافات. أما الرحالة الإنجليزي جون بورتر فقد ذكر أنه يسود اعتقاد لدى بعض أهالي مدينة مطرح  المحاذية لمسقط أنه من  يمسك بالأسماك الموجودة في خليج المدينة سوف يموت.

ومن المظاهر السلبية عادة الثأر والانتقام التي وجدت في المجتمع العماني، ذكر ويلستد أنه شاهد بنفسه أثناء زيارته إحدى المدن العمانية مشاجرة بين أفراد عائلتين بسبب خطأ وقع فيه أحد الرجال الذي كان يريد أن يؤدب ولده فوجه إليه صفعة ولكنه أخطأ فأصاب وجه ولد من عائلة أخرى مما أثار غضبا شديدا من قبل والد ذلك الصبي وتطور الأمر لتدخل أشخاص آخرين من القبيلتين وكاد أن يتسبب في فتنة قد تفضي للحرب لولا أن نجح العقلاء في نهاية المطاف وبصعوبة شديدة في الصلح بينهما. ولا شك أن انتشار الحروب في تلك الفترة كان لها أثرا في ظهور حالات من الرغبة في الانتقام ، بل إن الخلافات الشخصية البعيدة عن أي مظهر سياسي يمكن لها أيضا أن تتسبب في حالات من الثأر والانتقام. وعلى سبيل المثال حدثت في مدينة نزوى جريمة قتل راح ضحيتها أحد أبناء الشيخ الفقيه سعيد بن أحمد الكندي فطالبه قومه بالثأر إلا أنه امتنع عن المطالبة بالقصاص، وعندما أصر عليه قومه رأى بحكم مكانته الدينية والاجتماعية أن الثأر ستعقبه أعمال انتقام متبادلة، عدا كونها تصرف مخالف لأحكام الشريعة، ففضل مغادرة مدينته إلى قرية الهجار في وادي بني خروص، ولم يعد ثانية إلى وطنه بل توفي في مدينة نخل. وقد ذكر ويلستد أنه شاهد في شتاء عام 1835 أناسا كثيرين متأثرين من جراء إصابتهم بطلقات نار من البنادق ذات الفتيل ومن ضربات السيوف ، ويضيف ويلستد أن بعض تلك الاصابات والجروح تنشأ بسبب الرعونة والإهمال في التعامل مع البارود، إذ لا يكترث كثير منهم في حمل عود مشتعل بالنار ويضع بالقرب من بندقيته العامرة بالبارود، مما يجعله معرضا بين حين وآخر لخطر اشتعال البندقية وإصابته في أى موضع من جسمه.

ومن المظاهر السلبية في المجتمع إهمال العلوم والفنون والصناعات وعدم الأخذ بها إلا في أدنى الحدود ، ورغم أنه من السائغ التماس المبررات في ذلك لعدة أسباب لها علاقة بطبيعة ذلك العصر، مثل شيوع الأمية إلى الحد الذي لا يحسن فيه القراءة والكتابة إلا القليل النادر من الناس،بالإضافة إلى عدم توافر الإمكانيات المادية،ونقص الحوافز وعدم وجود مؤسسات تـُعنى بالتعليـم والصناعات إلا أن وجود الشركات الأوربية في الهند ووجود ووجود وكالات لها في منطقة الخليج كان من شأنها أن تفتح أعين العمانيين للتطور، لا سيما أن عوائد التجارة التي جناها العمانيون كانت مما يسمح بالبدء في التحديث إن وجدت همة وإرادة لا تعرف الكلل. وعموما لا يعتبر العمانيون استثناءا ً من حالة كانت سائدة في بلاد العرب آنذاك، كيف لا وقد اكتشف المصريون أثناء غزوهم من طرف الفرنسيين في 1798 أن البعثة العلمية التي رافقت تلك الحملة حملت من نماذج العلوم والمعرفة ما اعتبروه نوعا من السحر.  وهو الحال ذاته الذي كان عليه العمانيون، فيذكر ويلستد أثناء زيارته شبه جزيرة مسندم في عام 1835 أن سكانها اعترتهم الدهشة عندما شاهدوا المرآة والساعات ومخترعات أخرى للمرة الأولى.

تعليق عبر الفيس بوك