ضَجَّة في منزلِ باردي

عبد الرزاق الربيعي – مسقط

 

توطئة:
"منزل باردي" هو بيت قديم في "كريتر بمدينة عدن اليمنيّة"،  كان وكالة لبيع الحبوب، سكنه الشاعر الفرنسي "رامبو" أثناء إقامته في عدن لعدة أعوام تحديدًا في عام 1882، والمسرحية تستند إلى مرحلة في حياة "رامبو" وعلاقته بـ"فرلين" الذي هجر زوجته وسافر معه، ثم أطلق عليه النار فأصابه في كفه فعاد إلى باريس ليكتب "فصل في الجحيم" الذي ضمَّنَه العديد من أشعاره المعروفة في هذا النص.
   
{يقسم المسرح إلى قسمين ، قسم علوي ويمثل الخارج وقسم سفلي يمثل داخل البيت، يربط الداخل بالخارج باب وسّم صغير... يجلس في القسم السفلي رجل في الخمسين من العمر... يرتدي بدلة أنيقة وكأنه بانتظار ضيف ما، صوت سفينة وأمواج في الخارج... ساعة على الجدار تملأ المكان "بتكاتها" الرجل يجلس على كرسي هزّاز يقرأ في مخطوطة "فصل في الجحيم"......لرامبو}

الرجل (يقرأ في المخطوطة): فليقبل .... فليقبل
     الزمن الذي نتعشقه
                 مثل المروج عليها
                 النسيان انسدل
                 نمتْ وازدهرت بالبخور
                                  فليقبل.... فليقبل
                                  الزمن الذي نتعشقه

(صوت سفينة يبتعد)...لكن لاشيء سوى الوحل والطحلب والفراغ ...(يواصل القراءة) ماذا يتبقى للغصن الناحل إذا جرفته الأمواج  بعيداً عن اليابسة؟ إذا أسلمته اليابسة لأعماق البحر... هذا هو حال الساعة العاطلة على الجدار (ينهض ..يخلع ربطة عنقه) بهذه الرتابة تغادر سفينة الحياة... ولا شيء... لماذا أضع عيني في عين نجمة شاردة؟ هكذا أسأل نفسي في ساعات الصحو...ولكن ما الفائدة ؟.......
وحل... البياض وحل نظيف..... الهواء كذلك..... الذاكرة وحل أيضا... الأمس وحل ...وحل ...وحل ....وحل ....
(يذهب إلى رف كتب... يخرج مسدسا... يزيت أجزاءه ويصّوب نحو الفراغ .... يصرخ)
لا...لا أريد أن أتذكر هذا ...أبدا...لم أكن أقصد إيذاءه ...لم أتصور أن يده التي تكتب هذه الكلمات تتلوى مثل عصفور ذبيح مبلل بدمه ...لكن الرصاصة اللعينة انطلقت مثل الشهوة ...واخترقت يده ...ورصاصة واحدة كافية لإخراج المرء من الفردوس...فردوس المحبة...في المحكمة قال لي الحاكم : أنت متهم بالشروع بقتل صديقك الشاب وإصابته بيده...فضحكتُ...ضحكتُ...محامي الدفاع... الشهود... ضحكتُ... التهمة... الصحافة ... الكل يسأل عن السبب ؟... السبب الكامن وراء جريمة كهذه...رجل يستضيف شاعرا ًشابا ًفي منزله...يقدّمه لعروسه التي تحتفي به أيضا ً..
تحتفي كثيرا ً...تحتفي أمام أنظاره...تحتفي...فجأة...يسافر معه
...يهجرانها... يستمران في رحلتهما ...وذات يوم يتشاجران...
ترتفع أصواتهما ...
أصوات رصاص ...صراخ... بوليس..
الحاكم        : حكمت المحكمة حضوريا بالسجن لمدة سنتين مع الأشغال الشاقة ....
                  ضحكتُ...ضحكتُ...أما هو فقد خرج من المستشفى إلى قريته الوادعة بينما ذهبت إلى السجن... بعد عامين من الظلام والندم خرجت أبحث عنها... عروسي التي هجرتها... لم تكن هناك...أخبارها مقطوعة.. انتقلت إلى مكان ما، لم يكن المكان في مكانه.. انتهى العرس... وتفرق الضيوف.. واندمل جرح يده.. لكنني لم أندمل.. بحثت عنه ...عنها... عنهما... عني.. حتى  وصلت ُ إلى هذا المكان المهجور... هذا البيت النابت على البحر المخضب برائحة السمك والحبوب والذكريات...
صوت امرأة (تغني): إن كان قد بقي
                           مدفع عتيق بين حصونك المحطمة
              فأقذفنا بالجلاميد
         واقذف زجاج المتاجر الفاخرة
         والقاعات ....
         دس السمّ في السراب
         وأحش المخادع ببارود
         وياقوت متقد
الرجل        : ما هذا ؟ امرأة تغني بالفرنسية؟ أم... آه.... إنها...... إنه الجحيم
                  يتسّرب إلى الأعماق... الجحيم... من الذي ...؟ كيف؟...........
                  (تطرق على الباب)
                  إنها تبحث عنه...الماكرة... سأعرف كيف أحطم حصونك
(يزداد الطرق)
عليّ أن أتحكم بطبقات صوتي...ها هو البحر يلقي بعروسه إلى اليابسة...ها هو المساء يندمل...مرحى للبحر لأنه يتهجى الوقت جيدا ً..
(يستمر الطرق على الباب)

الرجل        : مَنْ في الباب؟

                  (يسلط الضوء على الطابق العلوي ..تظهر امرأة في الثلاثين يبدو عليها السكر)

المرأة        : أهذا منزل السيد هاردي؟
الرجل       :  نعم ، ولكن لا يوجد أحد في الداخل
المرأة        : أيها اللا أحد... افتح الباب....
الرجل       :  ماذا تريدين؟
المرأة        : لدي سؤال حول شخص فرنسي يقيم في هذا المكان كلما وصل "عدن"
الرجل       :  قلت لك لا يوجد أحد في الداخل
المرأة       :  يبدو أنك لا تصدق أنني سيدة فتأخرت َ في فتح الباب فافتح البحر أيها الباب
الرجل       : ماذا؟
المرأة        : أعني افتح الباب أيها البحار
الرجل       : لست بحارا ً أيتها السيدة... ولسنا في سفينة... يبدو انك شربتِ كثيرا...أنت الآن على اليابسة
المرأة     : أية يابسة؟ هل أُصبتَ بالصمم بحيث لا تسمع صراخ الموج عندما ينطح الصخور...؟ إن روح البحر تنتشر حول الساحل بكيلو متر...
الرجل       : صحيح أن السكارى شعراء بالفطرة
المرأة        : أما تزال تعتقد أنني جنية؟ فلم تفتح الباب له أيها البحار الخائف من ظله
الرجل       : قلت لك ِ لستُ بحارا
المرأة        : يبدو أن البحر أقالك من ظهر موجة فأصبحت حارسا ً لهذه الوكالة....
الرجل       : هل أنتِ تاجرة حبوب؟ لقد سافر الجميع إلى "أثيوبيا" وذهب الحارس إلى منزله منذ أسبوعين
المرأة        : إذن لماذا اختبأت في هذا الجحر الموحش أيها الفأر؟
الرجل       : يُحسن بك أن تهذبي ألفاظك أيتها السيدة... يبدو أنك تناولت الكثير من الشراب والطعام والأشعار
المرأة        : الأشعار؟
الرجل       : نعم
المرأة        : وماذا يفعل رجل مثلك في كتب الأشعار ؟
الرجل       : أُطهر نفسي من أدرانها
المرأة        : يطيب لي أن أقاسمك مائدة الشراب والأشعار
الرجل       : إذن اتفقنا
المرأة        : ولكن افتح الباب أولا ً
الرجل       : قلت ُ لك ِ لست ُ حارسا ً
المرأة        : إذن لماذا أنت هنا ؟ ما هي وظيفتك بالضبط ؟
الرجل       : أنا هنا أنتظر
المرأة        : أهذه وظيفة تليق برجل ٍ محترم؟
الرجل       : نعم ، وامرأة محترمة أيضا ً !
المرأة        : ولماذا لم تفتح الباب حتى هذه اللحظة أيها الحارس المحترم؟
الرجل       : قلت لك ِ لست حارسا ً....مفاتيح الباب مع الحارس
المرأة        : وإذا طرقت بابك العتيق سيدة محترمة فماذا تفعل عندئذ؟
                 هل تتركها تقف خارج المنزل مثل شحاذة؟
الرجل       : كلا...كلا... لقد ترك لي مفتاحا ً احتياطيا...فإذا كنت ِ مصرة على الدخول عليك بالانتظار حتى أعثر عليها
المرأة       : يبدو أنني وصلت في وقت غير مناسب ..سأذهب إلى أحد الفنادق
الرجل      : تمهلي لحظة ...أنت ِ ضيفتي ...إياك أن تفعلي هذا
المرأة       : لا أريد أن أسبب لك حرجا ً ....
الرجل      : لا يوجد أي حرج ...سأبحث عن المفتاح ... وستدخلين وسنسهر
                فلديّ بعض الشراب...
المرأة       : ربما يكون المكان ضيقا ً
الرجل      : لا ...فالمكان على تواضعه يتسع لهذه الفوضى الفارهة القادمة من وراء البحر
المرأة        : هل أنت شاعر ؟
الرجل       : لماذا هذا السؤال ؟
المرأة       : لأنني أتخيلك عنكبوتا ً كبيرا ً نسج عزلته في هذا المكان المهجور
الرجل       : ماذا قلت ِ أيتها السيدة المهذبة ؟
المرأة        : قلت ...أعني الشعراء يحبّون العزلة مثل العناكب
الرجل       : مثل ماذا ؟
المرأة        : مثل المراكب في البحار المظلمة ...مثل نوافذ هذا البيت .......
                 كيف تطيق كل هذا الظلام ؟
الرجل       : الظلام شعر
المرأة       : لنتكلم في النور ...متى تفتح الباب ؟
الرجل       : عندما اعثر على المفتاح
المرأة        : ومتى تعثر على المفتاح ؟
الرجل      : بعد لحظات ...هل بدأت بالضجر ؟
المرأة       : طبعا ً... لم أقطع كل تلك المسافة لأنتظر عند الباب كل هذا
                الوقت
الرجل      : قلت لك لحظات وتجدين نفسك في الداخل أمام مائدة عليها الشراب (للجمهور) هكذا هن دائما ً لجوجات ... ليس للصبر في نفوسهن موطئ قدم أبدا
المرأة       : أظن أن وقوف سيّدة أكثر من ربع ساعة بباب بيت قديم كهذا يعتبر إهانة كبيرة للجمال
الرجل       : عفوا...عفوا..لا طاقة لنا على المساس بالجمال... ولكنها حلقة المفاتيح التي نسيت الزاوية التي وضعتها فيها الأسبوع الماضي
المرأة        : كيف تطيق نفسك كل هذا الوقت من دون أن ترى ضوء الشمس على البحر؟
الرجل        : هل وجهت ِبهذا السؤال إهانة لي؟
المرأة         : وأنت ألم توّجه لي إهانة بعدم فتحك الباب؟
الرجل        : قلت لك إنني أبحث عن حلقة المفاتيح
المرأة         : أنا واثقة من انك مشغول بإتلاف أوراق ليست رسمية... هذا الأمر لا يهمني على الإطلاق ... إنه أتفه من أن أقطع البحر من أجله
الرجل        : أية أوراق ؟ لماذا ثارت أعصابك فجأة ؟
المرأة        : لأنني لا أتخيل رجلا ً يترك البحر والنور ويقطن في جحر مغلق فيه باب مغلق
الرجل       : تتكلمين عن النور وكأنك ابنة عمه !! ما أدراك ما النور؟
المرأة       : من حسن حظ النور عدم معرفتك به وعدم رؤيته لأنك بهذا تخفف عن كاهله رؤية عنكبوت مثلك!
الرجل       : أرى أن الإهانات بدأت تتناسل مثل الفئران
                 (صوت في الداخل .... صرخة)
                 آه ....آه.....
المرأة       : ماذا حصل ؟ هل بدأت بكسر الباب ؟
الرجل      : إنها مصيدة الفئران التي نصبتها
المرأة       : يبدو أنها أطبقت على قدم جرذ !!
الرجل      : ماذا قلت أيتها الفأرة ؟
المرأة       : ( تطرق بشدة ) افتح بسرعة
الرجل      : هل أنت مصممة على كسر الباب طرقا ً ؟ لماذا أنت قليلة الصبر ؟
المرأة       : لا يليق بباب محترم أن لا يفتح لامرأة
الرجل      : جميع الأبواب تفتح من تلقاء ذاتها للنساء المحترمات
المرأة       : هذا إذا كانت المفاتيح بيد رجال محترمين
الرجل      : أراهن أنك صغيرة الحجم ... لأن نموّك في بطن أمك لم يكتمل
المرأة       : وأراهن أنك بشع مثل عنكبوت ضخم
الرجل      : ( يصفق ) ها إنني أعثر على حلقة المفاتيح اللعينة
المرأة       : عثرت عليها أم تعثرت بها ؟
الرجل       :  يقينا ً أنك لم تصدقي ( يحرك المفاتيح حتى تعمل جلببة)
المرأة      :  شكرا ً للرب ...شكرا ً للرب ...انتظر لحظة قبل أن تفتح الباب فإن شعري يحتاج إلى ترتيب
الرجل      :  معك وقت لهذا ... فحلقة المفاتيح تحتوي على أكثر من مائتي مفتاح
المرأة       :  ماذا تعني أيها العنكبوت ؟
الرجل       :  أعني أن الأمر يحتاج إلى وقت
المرأة       :  وهل سأطل طوال الليل أصغي إلى ثرثرتك وقرقعة مفاتيحك الكسلى مثلك إلى أن تعثر على مفتاح الباب
الرجل      :  أنت حرة في الذهاب فورا ً
المرأة       :  لم آت من وراء البحار لأنصرف بهذه البساطة
الرجل      :  إذن عليك أن تغلقي فمك ريثما أهتدي إلى مفتاح الباب
المرأة       :  وإذا لم أمنع فمي عن سبّك ؟
الرجل      :  ( يلقي حلقة المفاتيح ) إذن لا تحلمي بفتح الباب أبدا ً
المرأة       :  وأنا أمنعك من أن تحلم برؤيتي
الرجل      :  وهل أنت ِ جميلة إلى هذا الحد ؟
المرأة       :  ستندم على كل هذا الوقت الذي أهدرته بخرخشتك للمفاتيح
الرجل      :  أنا واثق من صدق ادعائك
المرأة       :  أي ادعاء ؟
الرجل      :  كونك جميلة
المرأة       :  هه .... وكيف عرفت هذا ؟
الرجل      :  المرأة الجميلة تُعرف من غنج صوتها ... وإلحاحها نفاد صبرها
المرأة       :  ما دمت تعرف هذا جيدا ً... لِمَ لا تفتح الباب بسرعة تليق بامرأة قليلة الصبر ولحوحة ولها صوت كله غنج ؟
الرجل       :  يزين الصوت المغناج ألفاظ أقل خشونة
المرأة       :  هل عدت إلى مناكدتي ؟ يبدو أن سحر المرأة خلف الأبواب أقل تأثيرا ً منه وراءها!
الرجل       :  بالطبع ...السحر درجات مثلما النساء درجات
المرأة       :  وحتى لو أسلمنا بهذا القياس فأنت في الدرجة السفلى من درجات الرجولة
الرجل       :  اللعنة على الأبواب التي تمنع الرجولة من أن تـُري نفسها كرجولة حقة
المرأة       :  الرجولة الحقة تفتح الأبواب بنفس السهولة التي تفتح بها الأصابع أزرار ثوب
الرجل       :  الأصابع مفاتيح جاهزة على الدوام للأقفال الموصدة
المرأة       :  أصابع الرجال لا تصمد أمامها أقفال موصدة تقف خلفها امرأة لا تملك صبر زوجة أيوب
الرجل       :  صبري على كلامك يفوق صبر أيوب على متانته
المرأة        : أيوب نبي وهي ليست كذلك
الرجل       :  لو كان أكثر تحملا ً لكان لها شأن آخر
المرأة       :  وهل تريد لها أن تصبر أكثر من هذا ؟ لقد تحملتْ بلاء أيوب كامرأة
الرجل       : كانت تسكن نقطة خارجة من البلاء بينما كان بلاء أيوب في العظم
المرأة        :  لو كان موقفها ضعيفا ً لاستحقت العقاب
الرجل       :  لقد كان"أيوب" بها رحيما
المرأة        :  يبدو أنك لست َ من نسله !
الرجل       :  وأنت ِ لست ِ من نسل " بنيلوب "      
                (المرأة تخرج من حقيبتها مغزلا ً وخيوطا)
المرأة        : لقد انتظرت ُ "عوليسي" طويلا... طويلا ً لكنه عندما أطال الغياب قررتُ أن ألقي مغزلي أرضا ً وأبحث عنه ...
الرجل        : هل كان لا يطيق  رؤيتك فهرب منك ؟
المرأة        :  لا ... لكنه لا يريد أن أراه مدمى كجواد خاسر ....
الرجل       :  كلنا في النتيجة جياد خاسرة ما دمنا نجري في مضمار الشهوة
المرأة       :  أصبحت الخسارة هي السيدة منذ أن ناولني الفاكهة المحّرمة
الرجل       : تقصدين عندما أدخله إلى بيتكما السعيد ، عندما كنت في ثياب العرس  ؟
المرأة       :  (تنتفض) من قال لك هذا ؟ ماذا تقصد ؟ ....افتح الباب ...افتح الباب ....افتح .....(تبكي) هل تعرفني ؟ ليس غريبا ً عليّ هذا الصوت ...من أنت ؟.. من أنت؟ ...افتح الباب
الرجل       :  إهدأي قليلا ً ..أرجوك ...سيهرع كل من في الشارع إليك إذا استمر صراخك
المرأة        :  ماذا تريد مني بعد كل تلك السنوات ؟
الرجل       :  لقد عرفتك من صفير الباخرة التي حملتك إلى الميناء ...أنا أشم رائحة الخطيئة من بعد آلاف الأميال
المرأة       :  خطيئة ؟ كلنا محكومون بالخطيئة ...لكن هذا الكلام لا يقال وبيننا يقف باب بكل جبروته الصلد
الرجل       :  سأُجرّب بقية المفاتيح ...انتظري قليلا ً
المرأة       :  حاول ْ....حاولْ
الرجل       : هل بدأت تشعرين بالبرد؟
المرأة       :  كثيرا ً... رغم أنني أرتدي الغليظ من الملابس لكن بردي هو برد من نوع آخر
الرجل       :  لقد صاحبني هذا النوع من البرد في ليالي وحدتي الطويلة
المرأة        : أنت الذي اخترت هذا المصير
الرجل       :  ماذا تقصدين ؟
المرأة       :  أقصد منذ أن دخل الشاب إلى البيت الهادئ
الرجل       :  لم أكن أعرف "أن امرأة ستبذل له قلبها"
المرأة       :  "هي الآن قديسة في السماء"
الرجل      :  "ذلك هو مصيرنا نحن المحسنين الأبرار"
المرأة       :  لقد عرفت حينها أنه لو كان أقل وحشية لنجونا ...لكن لطفه أيضا ً قاتل وأنا بين يديه ويحي مجنونة ..مجنونة ...افتح الباب
الرجل      :  هوني عليك ...أقسم لك أنني سأنجح في فتحه ...مثلما نجح في فتح باب قلبك
المرأة       :  هه ... كنت لم أزل في ثياب العرس عندما دخل حياتنا ...فجن ّ البيت سعادة  ورأيت خليلي أمرا مقدسا...كانت محبته مسحورة ..تشبثت به ...رسمت دموعي على قميصه ..وأخذت
                  عليه العهد ألا يهجرني ..كنت أعلل نفسي سوف يهبني القوة ...وسنرحل نصطاد في الصحراء ونرقد على جوانب الطرقات في المدن المجهولة ...وأنت ما الذي دهاك؟
الرجل       : (يغني) كانت محبته مسحورة ...تشبثت ...رسمت ...أخذت
المرأة        : وماذا حصل في تلك الليلة المشؤومة
الرجل       : رحلنا في الصحراء
المرأة       :  لماذا؟
الرجل      :  لكي نصطاد وترقد على جوانب الطرقات في المدن المجهولة..
                 ولكن هل كان يحدثك عن الحب؟
المرأة       : لا...لا...كان يحثني عن الموت الذي يجلب الندم وعن الفراق الذي يمزق القلوب
الرجل       : عن الفراق ..هه ؟
المرأة       :  ذات يوم بعد عناق أخاذ قال لي: كم سيبدو لك عجيبا ً بعد أن أفارقك؟
الرجل       : ماذا يعني بهذا ؟
المرأة       : سألته أجاب: لابد أن أرحل بعيدا يوما ما لأفرّج عن ذهني ما
                 تواطأ عليه من غوايات....
الرجل       : لاحظت هذا
المرأة       :  ماذا لاحظت؟
الرجل      : لاحظت بعوضة تحوم نشوى فوق مبولة الحان ويكفي شعاع ليبيدها
المرأة       :  لا تصبح فظا ً مثله
الرجل      :  هل تريدينني أن أقول: لاحظت فراشة تحوم نشوى
المرأة       :  يكون أفضل
الرجل      :  لكنني سأخرج عن النص
المرأة       :  أي نص؟
الرجل      :  نص الجحيم
المرأة       :  ولماذا أطلقت نيرانك على الشعاع
الرجل      :  لأنها فراشتي
المرأة       :  هه ؟ فراشتك ؟ إذن لماذا هجرتها؟
الرجل      :  كان لابد أن يحدث ما حدث... كان لابد أن يحدث ما حدث
المرأة       :  ولكن الجميع خسر
الرجل      :  لا عليك بإحصاء الخسائر لأننا ربحنا تحية الجمال
المرأة     :  عن أي ربح تتحدث فأنا لست سوى امرأة ضالة ...كان لابد لها أن تقطع البحر وتصل إلى هنا لتدق هذا الباب الذي لم يفتح
الرجل      :  سيفتح بالتأكيد
المرأة      :  ولماذا تريده أن يفتح وأنت تعرف أنني لا أبحث إلا عنه
الرجل      :  وأنا أيضا ً..
المرأة      :  وها نحن نلتقي ثانية
الرجل      :  علينا أن نشكر الرب
المرأة       :  على ماذا ؟
الرجل      :  لأنه جعلنا نتكلم بحرية
المرأة       :  ولماذا تركنا اللعبة بحرية؟
الرجل      :  كانت حياتنا ستستمر على تلك الوتيرة الرتيبة لو لم يدخل إلى حياتنا كنا بحاجة إلى باب
المرأة      :  كلنا نحتاج إلى أبواب مقفلة... تحجبنا عن بعض لكي نصل إلى الحقيقة وندخل ....
الرجل     :  وهل وصلناها؟
المرأة     :  لا...الوصول إلى الحقيقة يتطلب أكثر من باب ...الحقيقة "بنيلوب" تنتظر "عوليسها"
الرجل    :  "بنيلوب" لم تعد تنتظر
المرأة       :  عندما أحست بخسارة "عوليس" ركضت تبحث عنه
الرجل       :  "عوليس" لم يتلكأ بالعودة ..."عوليس" كان شاعرا ًفوقف يلقي التحية على الجمال فتأخر في طريق العودة
المرأة       :  لكنها تحية على هيئة رصاصة
الرجل      :  لا تعذبيني أرجوك ...كان لابد أن يحدث ذلك
المرأة       :  هل كنت غيورا ً إلى هذا الحد ؟
الرجل      :  كنت غيورا ً إلى درجة الرصاص
المرأة     :  لكنك منذ دخل بيتنا لم تكن تحبني ... وفجأة ألطافه الغامضة أغوتني فنسيت كل شيء وتبعته
الرجل      :  لكنه لم يكن يعرف الحب ...كان يقول: إن الحب ينبغي أن يبتكر من جديد فلم يعد بوسع النساء غير الرغبة في مقر أمين فإذا ما حزنه غفلن الهوى والجمال
المرأة       :  وهل صدّقته ؟
الرجل      :  أنصت إليه وهو يجعل من العار مجدا ً ومن القسوة سحرا ً
المرأة      :  إنه شيطان ...ليس هو بشر...كنت أعاركه وكان يثير الرعب في قلبي
الرجل      :  وعندما لاحظ أنني لاحظت هذا هرب فتبعته
المرأة       :  لماذا تبعته ؟ قل لي لماذا ؟ سأكسر الباب إذا لم تقل لي
الرجل      :  إنه شيطان ...ليس هو ببشر
المرأة       :  هل أطلقت عليه الرصاص بدافع الغيرة ؟
الرجل      :  وهل جئت لمحاكمتي ؟
المرأة       :  أجبني ؟
الرجل      :  نعم ...
المرأة       :  إذن كنت تحبني ها ؟
الرجل      :  دعك من هذا الكلام الآن
المرأة       :  قلها لمرّة واحدة ...واحدة فقط ...لكي لا أشعر بالخيبة
الرجل      :  أية خيبه ؟
المرأة       :  خيبة البحث ....
الرجل      :  عن ماذا ؟
المرأة       :  عن ... عن ... عن "عوليس"
الرجل      :  هل كنا بحاجة لكل هذا الضباب لنتبين ملامحنا جيدا ً
المرأة       :  وأنت ...هل رأيته ؟
الرجل      :  لا .....
المرأة       :  لماذا ؟
الرجل      :  كنت اعرف أنه رحل منذ سنوات
المرأة       :  أكنت تريد قتله ؟
الرجل      :  كلا....
المرأة       :  إذن لماذا جئت إلى هنا ؟
الرجل      :  من أجلك.....
المرأة       :  لأجلي؟
الرجل      :  نعم ، كنت أتوقع وصولك في أية لحظة... كنت أهيئ نفسي لاستقبالك كلما سمعت صفير سفينة تصل الميناء
المرأة       :  أعرف أنني ضالة... ثملة...نجسة... وقد ولدتُ خاضعة له.. أما الآن ما عرفت قط مثل هذا الهذيان ... وذلك العذاب... أواه... إنني أتعذب وأصرخ ... مع أنه لم يبق ما أتحرج منه.
الرجل      :  ولماذا أتيت لطرق بابه ؟
المرأة       :  لقد كانت محبته موعدا ً بيننا ...بحثت عنك في كل مكان ...لم أجدك حتى اهتديت إلى هذا المكان ...توقعتك هنا ....والآن انتهى كل شيء ... جهّز رصاصتك ... لتأخذ محلها في قلبي وحاذر أن تخدش كفّ "بنيلوب" لئلا تفشل في فك النسيج في الليل ...صوّب إلى القلب جيدا ً ...
                  (خرخشة مفاتيح)
                  (يفتح الباب .....يقفان وجها ً لوجه ..... صمت)
                  (يسدل الستار)
...............................
** إضاءة على النصّ بقلم عواد علي
                                                                                                                                 

    تفيض شخصية رامبو، الشاعر الفرنسي المتمرد، وأحد آباء الحداثة الشعرية في أوروبا، سحراً وجاذبية في نفوس الكثير من المبدعين والمثقفين العرب، ولذلك كان لهذه الشخصية حضورها في العديد من الأعمال الأدبية والفنية، وبخاصة المسرحية منها، وكنت قد شاهدت أول عرض يتناول حياة رامبو من تأليف و إخراج المسرحي العراقي حسين علوان، الذي قدمه في دارة الفنون بعمّان عام 1996، وهو يركز على بعض المراحل من سيرة الشاعر في فرنسا ورحلته إلى أثيوبيا وعمله في تجارة الأسلحة والرقيق ومغامراته الوجودية ومعاناته الشديدة بعد بتر ساقه. وقد أعادت فرقة المسرح الوطني اليمنية إنتاج هذا النص، فيما بعد، بإخراج محمد الرخم. وفي عام 1999 شاهدت عرضاً ثانياً بعنوان (عدن... عدن) تأليف و سينوغرافيا وإخراج التونسي حسن المؤذن، أنتجه المسرح الوطني التونسي، وقدم في أيام قرطاج المسرحية، وهو يبدأ من اللحظة التي كان فيها الشاعر على فراش المرض يتهيأ للموت بقلب غير واجف، أعزل إلاّ من التجديف والشهوة والرغبة اللانهائية في الامتلاك، على الرغم من أنه مقتنع بأن مغامراته الوجودية قد أشرفت على نهايتها الفاشلة، وبخاصة أن ساقه قد بترت، والمرض أخذ من جسده كل مأخذ. وتواصلاً مع ذاته المتمردة التي اختبرت معاناة الكلمة، وجراحات الواقع، وعذابات الروح، فإنه يتأهب للوداع الأخير رافضاً إلحاح القساوسة على الاعتراف، والصلاة للرب، ساخراً من كهنوتهم ودعاواهم، والى جانبه أخته إيزابيل التي تطلب له الغفران وترجوه الإصغاء إلى نداء القساوسة الذين استدعتهم لكي لا ينتهي نهاية وثنية.
    وأحدث ما قرأت عن رامبو في المسرح العربي مسرحية رفيعة المستوى للشاعر العراقي عبد الرزاق الربيعي بعنوان (ضجة في منزل باردي) نشرها مع نصين آخرين في موقعه الشخصي على الإنترنت، وباردي هو بيت قديم في كريتر بعدن، كان وكالة لبيع الحبوب، سكنه رامبو في أثناء إقامته في عدن عدة أعوام. وتستند المسرحية إلى مرحلة في حياة رامبو، وعلاقته بصديقه الشاعر الفرنسي فرلين الذي هجر زوجته وسافر معه، ثم أطلق عليه النار فأصابه في كفه، فعاد رامبو إلى باريس ليكتب ديوانه (فصل في الجحيم). ولا تظهر شخصية رامبو أو اسمه في المسرحية، ولا يرد ذكره إلاّ بصفته شاعراً، في حين نسمع مقاطع من شعره على لسان بطل المسرحية (الرجل = فرلين) الذي يقرأ في مخطوطة (فصل في الجحيم)، ثم يبدأ باستذكار صديقه الشاعر الشاب الذي استضافه في منزله، فاحتفت به عروسه كثيراً أمام أنظاره، ونشأت بينهما علاقة ما نكتشف طبيعتها في نهاية المسرحية. ولكن الرجل وصديقه سرعان ما يغادران المنزل في رحلة، تاركين العروس وحدها. وذات يوم يتشاجران، فيطلق الرجل رصاصة على الشاعر ويصيبه في يده، فتحكم عليه المحكمة حضورياً بالسجن سنتين مع الأشغال الشاقة. وعلى الرغم من شفاء الشاعر فإن جرح الرجل لم يندمل، وظل بعد خروجه من السجن يبحث عنه وعن عروسه حتى وصل إلى هذا المكان المهجور في عدن، وهو بيت نابت على البحر، مخضب برائحة السمك والحبوب والذكريات. وفجأة تطرق الباب امرأة فرنسية تسأل عن شخص فرنسي يقيم في هذا البيت كلما وصل إلى عدن، وقد اقترح المؤلف عبد الرزاق الربيعي شكلاً للبيت يتألف من قسمين، قسم علوي يمثل الخارج لتظهر فيه المرأة، وقسم سفلي يمثل داخل البيت ليظهر فيه الرجل. ويستغرق الحوار بين الشخصيتين المسرحية كلها، كاشفاً عن انشغال الرجل بالبحث عن مفتاح الباب، وضيق المرأة من الانتظار، واعترافها بأنها هي العروس التي هجرها الرجل، وأن علاقتها بالشاعر كانت علاقة غرامية " بذلت له فيها قلبها"، ولكنها تابت عن خطيئتها، وأصبحت " الآن قديسة في السماء" . أما الرجل فإنه يوحي في حواره بأن رحيله مع الشاعر كان بدافع الحب أيضاً، فقد " كانت محبته مسحورة" ! وهذا يطابق حقيقة العلاقة التي كانت تربط فرلين برامبو كما تكشف سيرتاهما.
    ويوظف الربيعي في هذه المسرحية، ببراعة، بعض رموز ملحمة (الأوديسة) من خلال تشبه المرأة بشخصية (بنيلوب)، وبحثها عن (عوليس) على الرغم من التباين الكبير بين شخصيتي المرأتين، فها هنا تخون المرأة، وهي لما تزل عروساً، زوجها، في حين تظل (بنيلوب) وفية وفاءً نادراً لزوجها (عوليس) الذي غاب عنها عشر سنين كما تروي ملحمة هوميروس. ولعل من أبرز سمات المسرحية أسلوب حوارها، الذي زاوج فيه الربيعي، بمهارة، بين الشاعرية والتلميح والسخرية الهادئة، وهو أسلوب يأسر القارئ بسلاسته وروحه الدرامية.

تعليق عبر الفيس بوك