قراءة في المنجز الشعري للشيخ محمد بن شامس البطاشي (1 -2)

حارث البطاشيّ – سلطنة عُمان


الشيخ العلامة محمد بن شامس بن خنجر بن شامس بن خنجر بن شامس بن ناصر بن سيف بن فارس بن كهلان البطاشي. ولد بمسفاة بني بطاش بولاية قريات في الثاني عشر من شهر صفر الخير سنة 1330هـ توفي والده وهو في المهد رضيع لم يتجاوز عمره أربعة أشهر.
وبدأ يشق طريقه نحو العلم وكعادة العمانيين قديما فإن أول ما يتعلم الطفل من العلوم هو القرآن الكريم وقد أخذ يدرس القرآن على أخيه أحمد بن شامس الذي يكبره بأربع سنين ولم يبلغ السابعة من العمر إلا وقد استظهر القرآن .
وفي هذه السن المبكرة بدأ نظم الشعر وقرضه والوالد رحمه الله شاعر بالفطرة فإنه قال الشعر مبكرا قبل أن يتعلم بحوره وقبل أن يدرس أوزانه وتفعيلاته وأقدم نص شعري وجدته كان عبارة عن أبيات قالها لما استقر به المقام في كنف الإمام الخليلي بنزوي يخاطب فيها قومه وعمره آنذاك أربعَ عشرةَ سنة يقول فيها:
يا رائحـــا باليعمــــلات وغـــادي
                                    يطوي المفاوز من ربى ووهـــــاد                           
أبلــــــغ بني بطـــــــــاش أن محمدا                           
                                   ســــاع إلى كســـب العلوم وغـــاد                                            
من كان يسعى لاكتســـاب معيشة                   
                                   ويبيت فـــوق آرائــك ووســـــــاد                                
فأنا إلى طلـــــب المكارم لـــم أزل                            
                                   أسعـــى بهمــــــة ماجــــــد نقــــاد                                   
ما إن تراني والمهيـــــمن معـرما                                  
                                   بجبــــين فاطمـــــة وعين ســــعاد                               
سأحالف الخلـــــوات في ظلمــاتها                          
                                   وأواصــــل الأرقــــال بالآســــــاد                             
وأهين هذي النفس في طلب العلى                              
                                   حتى أحصـــل بغيــــتي ومــرادي                             
فليهنا قومـــي بالــــدنا إني امـــرؤ                                      
                                   قد بعتـــــها بخســــا بسوق كســـاد                                
                                        
وفي سنة 1343هـ قصد نزوى حيث الإمام الخليلي وهناك التقى بالعلماء وأخذ عن كل عالم فنه الذي يلقيه على طلبته ولقد كانت نزوى عاصمة الإمامة وبيضة الإسلام كما يطلق عليها ملتقى طلبة العلم في عمان يفدون إليها من أرجاء الوطن الكبير وينهلون العلوم على يد علمائها وقضاتها وكانوا جميعا في رعاية الإمام الخليلي الذي يتعهد طلبة العلم ويشرف عليهم بنفسه.
ويمكننا أن نجمل شيوخ الشاعر والقاضي العلامة محمد بن شامس البطاشي الذين أخذ عنهم وتتلمذ عليهم في حلقات العلم فيما يلي:
(1)    أخوه الشيخ أحمد بن شامس بن خنجر البطاشي
(2)    الشيخ حامد بن ناصر النزوي
(3)    الشيخ العلامة عبد الله بن عامر بن مهيل العزري
(4)    الشيخ العلامة سعيد بن ناصر بن عبد الله الكندي
(5)    الشيخ العلامة أبو مالك عامر بن خميس المالكي
(6)    الإمام محمد بن عبد الله الخليلي.
وقد كانت بداية أعمال العلامة محمد بن شامس البطاشي - رحمه الله - مع القضاء سنة 1356هـ عندما تقلد قضاء ولاية قريات ثم تولى قضاء حمراء العبريين وفي سنة1361هـ عينه الإمام الخليلي واليا وقاضيا على ولاية بدبد ووادي سمائل وفي سنة 1364هـ تولى قضاء ولاية قريات مرة أخرى وفي سنة 1368 هـ عينه الإمام الخليلي قاضيا على جعلان بني بو حسن.
ومع استلام جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - مقاليد الحكم في البلاد كان الشيخ البطاشي أول قاض يتم تعيينه في الحكومة الجديدة بتوجيه من جلالة السلطان حفظه الله وظل الوالد متربعا على كرسي القضاء أطول مدة زمنية لم يتخللها انقطاع من بين الفترات التي تولى فيها القضاء .
وقد أثرى العلامة محمد بن شامس البطاشي - رحمه الله - المكتبة الإسلامية بالكثير من المؤلفات النافعة وهي تتراوح في مجملها بين الموسوعات المطولة ذات الأغراض المنوعة والأجزاء المتعددة كسلاسل الذهب نظما وغاية المأمول نثرا وبين الأجزاء المفردة التي تعنى بموضوع معين كإرشاد الحائر في أحكام الحاج والزائر وكشف الإصابة في اختلاف الصحابة أو الرسائل المختصرة وهي في موضوعات شتى وأغراض عديدة.
وكما تفاوتت مؤلفات العلامة محمد بن شامس البطاشي - رحمه الله - في الكم والحجم فإنها تنوعت كذلك في المضمون والموضوع فقد ألف في الفقه والعقيدة والتفسير والأصول والتاريخ والسير والأدب واللغة والأنساب بالإضافة إلى مئات وربما آلاف الأحكام الشرعية التي حررها على مدى ستين عاما قضاها على كرسي القضاء الشرعي وقد أحصيت مؤلفاته الموجود منها والمفقود والمنظوم والمنثور فبلغت اثنان وخمسون مؤلفا على أن إجماليَّ تراثه الشعري والمنظوم يتجاوز عشرين عنوانا أذكر منه على سبيل المثال ثلاث مناظيم في النحو والصرف ومنظومتين في رحلتين له إلى حج بيت الله الحرام تتجاوز أبيات كل منهما أربعمائة بيت وخمس مناظيم في فهرسة بعض كتب الأثر يتجاوز عدد أبيات بعضها خمسمائة بيت ومناظيم أخرى أبياتها تقترب من الألف بيت وسأتكلم في هذه الورقة عن تراثه الشعري من خلال ديوانه فقط مع التعريف باختصار بموسوعته النظمية سلاسل الذهب.
وتوفي في صبيحة يوم العيد غرة شوال سنة 1420 هـ خرج بالناس للصلاة فأمهم ثم أمرني بالخطبة وأخذ يسار المحراب ولم تمض دقائق إلا وسقط على الأرض وقد غادرت روحه جسده على وضوئه وفي محراب صلاته وأمام يدي ربه وكان كثيرا ما يردد:
لاهــم أســألك الشهادة إن دنا
                                آن انقضا أجــلي وحـمّ مماتي               
فأموت في كرم كموت أئمتي                                                   
                                بلج ومــرداس وذي الثفــنات                       

وعندما نأتي لنتحدث عن شعر العلامة محمد بن شامس البطاشي - رحمه الله  - أقول إن ما تركه من إرث شعري يعد ضخما للغاية يجعله في صدارة شعراء العربية وأحسب أنه يستحق أن يطلق عليه لقب شاعر الدنيا إذ لا يوجد نظير لمنظومته سلاسل الذهب التي يبلغ عدد أبياتها مائةً وأربعة وعشرين ألف بيت إلا أنه مع هذا كله غلب عليه اهتمامه بالعلم الشرعي أزيد من عنايته بالشعر وعرفه الناس بالفقيه المجتهد اكثر من كونه شاعرا متمكنا وهذه الثروة الشعرية الهائلة سخرها لخدمة العلم فجعل منها وسيلة لنظم العلوم في قالب شعري حتى يسهل حفظها ويثبت معناها ويعلق في نفس المتعلم وهو ما عبر عنه بقوله في مقدمته على سلاسل الذهب مفندا السبب الداعي إلى وضع هذا الكتاب نظما حيث يقول:
لأنما النظـــم علــى الأسمـــاع
                  أشهى واأرجى أن يعيه الواعي

ويحتل الشعر التعليمي أو العلمي مكانة خاصة في عموم شعر العلامة محمد بن شامس البطاشي - رحمه الله  تعالى - وهذا اللون من الشعر لم يكن معروفا عند العرب في الجاهلية ولا في صدر الإسلام وإنما ابتدأ ظهوره في العصر العباسي واشتغل به العلماء ونظموا به كثيرا من الفنون كالفقه والسير والطب والتاريخ واللغة وغيرها وبلغت شهرة بعض المنظومات العلمية ما جعلها تتبوأ صدارة فنها كألفية ابن مالك في النحو والصرف التي اشتغل بها العلماء قديما وحديثا بالشرح والتدريس ولم يكن أهل عمان بمعزل عن هذا الحراك المستحدث في الأدب العربي إذ ظهرت عنايتهم به مبكرة ونظموا به فنونا كثيرة من العلم.
ويأتي كتاب سلاسل الذهب كمثال متفرد وأنموذج موسوعي للشعر الديني والكتاب موسوعة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من شمول وتنوع وهو عبارة عن أرجوزة دينية يغلب عليها الطابع الفقهي تقع في مائة ألف بيت وأربعة وعشرين ألف بيت من الشعر يحويها عشرة مجلدات كبار وهي بذلك تعد اكبر ديوان شعر في تاريخ الإسلام كله ونظم الوالد السلاسل كاملا في مدة ثلاث سنين بدأ نظمه سنة 1382 هـ وأتمه سنة 1385 هـ.
وغير خاف على أحد أنّ نظمَ كتاب بهذا الحجم في مدة وجيزة لا تتعدى الثلاث سنوات على كثرة الأشغال وعدم التفرغ للتأليف لمما يدل على شاعرية صاحبه وعلى إنه شاعر فوق العادة وكأنه يصدق عليه وصف المتكلم بالشعر وهذا أمر شاهدته منه وسمعته بأذني فقد كان رحمه  الله حاضر البديهة ومن السهل عليه أن ينظم في جلسة واحدة قصيدة كاملة ربما يحتاج غيره من الشعراء إلى أيامٍ وليال حتى يتم نظمها.
ويؤرخ - رحمه الله - بداية ونهاية تأليفه السلاسل كما جاء في مقدمة الكتاب ويذكر كذلك أهم ما اشتمل عليه من موضوعات:

وعـــام اثنــــين ثمـــــانين لقـــد
                                 بدأت فيــــه مستعيـــنا بالصـــمد      
وعـــام خمســـــة ثمـــــانين إلى
                                ألف ثلاثمـــــائة قـــــد كمـــــــلا                       
سميته باســم (سلاســــل الذهب)
                                حاوي الأصول والفروع والأدب
جعلتـــه في عشـــــرة أجـــــزاء     
                                وعــــــدها لم يأت بالســـــــــواء
بل بعضها أزيـــد من بعض وقد
                               صار جميــــع النظـــم حينما يعد
مـــائة ألف بالعـــــداد الوافـــــي
                                عشـــــرون مع أربعـــــة آلاف
بعـــد أنبيــــاء ذي الجـــــــــلال
                                ورســله أهــــــل المقــــام العالي
فأســــأل الرحمـــــن ذا الجـــلال
                                يجعله من صـــالح الأعمـــــــال
ينفعني به كمــــا قــــد ينفـــــــع   
                                من شـــــاء يقــــرأ فيه أو يستمع
فهاكه سفـــــرا حـــــوى المهــما
                                من الأصــــول والفــــروع نظما
والحمــــد لله على مـــــا أنعـــما
                                لقد هــــداني للهـــــــدى وتمـــما                                         

تعليق عبر الفيس بوك