الغرب بين ظاهرتي الإجهاض والانتحار!

د. يحيى أبوزكريّا

تُطالب العديد من المُنظمات الإنسانيّة والدينيّة في السويد بضرورة وضع حدّ لظاهرة الإجهاض المستشري بشكل يفوق حدود التصوّر في السويد وفي دول شمال أوروبا، وفي الوقت الذي تستورد فيه دول شمال أوروبا البشر من مختلف دول العالم الثالث لإحداث توازن في منظومتها السكانيّة التي دبّت فيها الشيخوخة بسبب عدم إقدام سكان هذه المنطقة على الإنجاب، فإنّ دول شمال أوروبا تجيز الإجهاض بل وتعتبره حقّا مُقدسّا للمرأة التي لا تريد الاحتفاظ بالجنين.

ومعروف أنّ أغلب العلاقات بين الزوجين هي علاقات معاشرة بدون ارتباط قانوني أو ديني، وكثيرا ما يصادف المرء في السويد مثلا رجلا على علاقة بامرأة منذ عشرين سنة وأنجبا أولادا، وبعد أن يكبر الأولاد يقررّ المتعاشران تسجيل زواجهما في الكنيسة وذلك بعد مرور سنوات على هذه العلاقة غير القانونية وغير الدينية.

وبالعودة إلى الإجهاض فإنّ القانون السويدي والقانون السائد في دول شمال أوروبا يقول بالحرف إنّ الإجهاض يعني أنّ المرأة لها كامل الحقوق في إزالة ما في بطنها، وأنّها وحدها يحقّ لها اتخاذ قرار الإجهاض. وبناءً على هذا القانون وحسب دراسة أخيرة حول الإجهاض في السويد فإنّ ثلاثين ألف جنين يتمّ إجهاضهم في السويد وحدها.

وأعمار المجهضات تتراوح بين ثلاث عشر سنة إلى ثلاثين سنة، وإذا كان معظم المجهضات في السابق من السويديات فإنّ المجهضات اليوم فيهن قسم كبير من القادمات من العالم العربي والإسلامي، لكن الدراسة الأخيرة السويديّة لا تقدّم إحصاءات دقيقة حول نسبة السويديات والمهاجرات اللائي يتوجهنّ إلى المستشفيات للإجهاض.

وحسب هذه الدراسة، تمّت المعاينة في المصالح النسائيّة فإنّه يكفي أن تتوجّه الحامل إلى أي عيادة نسائيّة وتطلب إزالة ما في بطنها ليتحققّ لها ذلك في غضون ساعات. وأخطر ما في الأمر أنّ الجنين قد يستخرج من الرحم قطعة قطعة، ولو حدث ذلك لكلب أو قطّة لتغيرّ النظام السياسي عن بكرة أبيه في الغرب.

والعجيب أنّ الحضارة الغربيّة التي وضعت القانون تلو القانون لحماية حقوق الإنسان لم تتمكّن من وضع قانون لحماية الأجنّة في الأرحام. وقد حاول الحزب الديموقراطي المسيحي في السويد وقف الإجهاض وطالب بذلك من خلال ممثليه في البرلمان لكنّه لم ينجح في وقف تنامي ظاهرة الإجهاض في السويد وخصوصا في ظل العلاقات الجنسية المباحة وفي ظلّ عدم وجود شيء اسمه قيّم أو شرف. وقد سجلّ في المدة الأخيرة في السويد ارتفاع حالات الإجهاض من ثلاثين ألف إلى خمسة وثلاثين ألف حالة إجهاض وهذه النسبة هي ربع حالات الولادات في السويد.

والإشكال كما يقول بعض الكتّاب في السويد ومنهم كايسا أولسون وغيرها أنّ الإجهاض لا يأتي نتيجة المعاشرة الجنسيّة غير المضبوطة، بل إنّ بعض الأزواج يقررون الإجهاض بمجرّد أنّهم لا يريدون مزيدا من الأطفال حفاظا على الوضع الاقتصادي للعائلة.

وتنتمي المجهضات إلى مختلف الطبقات الاجتماعيّة، فمنهنّ الطالبة والمحاميّة والعاملة في المطعم وذات المؤهّل الجامعي وغير المؤهلّة جامعيّا، بمعنى أنّ معظم الفتيات المجهضات ومهما كان مستواهنّ الثقافي يرينّ أنّ الإجهاض هو مجرّد وسيلة للتخلص من عبء ولا يعتبر بتاتا إزهاقا لروح محترمة في نظرهنّ. وغياب البعد الديني هو الذي أدّى إلى إنبلاج هذه الثقافة التي تقدّس الكلب أكثر ممّا تقدّس الروح البشريّة، ولعلّ هذا يوجز المعادلة التي تقوم عليها الحضارة الغربيّة.

ومن جهة أخرى، تعيش دول شمال أوروبا وهي السويد والنرويج وإيسلندا والدنمارك وفنلندا شبح الانتحار المنتشر بين صغار السن والشباب على وجه التحديد، وتحاول مختلف المؤسسات الاجتماعية والنفسيّة دراسة هذه الظاهرة المتفشيّة وسط الشباب في محاولة لوضع حدّ لها، وكان الاعتقاد السائد أنّ موجة الانتحار في دول شمال العالم تكثر في فصل الشتاء حيث الغياب شبه الكامل للشمس والظلمة الحالكة والبرودة غير المتحمّلة وارتفاع نسبة المكتئبين، غير أنّ دراسات عديدة عن ظاهرة الانتحار صدرت في السويد والدنمارك أشارت إلى أنّ عدد المنتحرين في فصل الشتاء موازٍ لعدد المنتحرين في فصل الصيف أو بقيّة الفصول. وحسب الدراسات عينها فإنّ المنتحرين لا يعانون إطلاقا من مشاكل ماديّة، إذ إنّ الحكومات في شمال العالم تقدم دعما كبيرا للطالب الشاب وصغار السنّ.

الأغرب من كل ذلك أنّ جريدة "أفتون بلادت" السويدية الذائعة الصيت نشرت موضوعا يتحدث عن تفكير مئات التلاميذ في المدارس السويدية في الانتحار، وهي المعضلة نفسها السائدة في بقيّة دول شمال العالم، والذين ليس لهم الجرأة على الانتحار بدأوا يميلون إلى تعاطي المخدرات بمختلف أصنافها والتي تؤكّد دراسات سويدية جديدة أنّ المخدرات بدأت تروج بشكل فظيع في دول شمال العالم، وتذهب نفس الدراسة إلى القول بأنّ بعض المدن السويدية التي لا يتجاوز عدد سكانها المائة ألف نسمة نسبة الأطفال فيها والذين يتعاطون المخدارت دون سن الرابعة عشرة تجاوزت 17 بالمائة. والدراسات التي حللت نفسية المنتحرين وقدمت ما كتبه المنتحرون من رسائل يبررون فيها إقدامهم على وضع حدّ لحياتهم، كشفت أنّ أسباب الانتحار موزعة بين التيه والضياع، الرتابة والملل، والفراغ، وخيانة الحبيبة والعيش بلا رفيقة أو رفيق، وبعبارة أخرى كما يقولها باحث نفساني من فنلندا هو الفراغ الروحي الدافع الأساس إلى هذا الانتحار ويستدل على ذلك بقوله إنّ معظم المنتحرين لا علاقة لهم بالدين ولا يترددون على الكنيسة ولا يؤمنون بخالق لهذا الكون.

وتبينّ الدراسات مجتمعة أنّ الأجيال المهاجرة بدأ يسود بينها الانتحار والمنتحرون الذين هم من خلفيات مهاجرة أو هم مهاجرون بالأساس تختلف مبررات انتحارهم عن مبررات انتحار المواطن السويدي والدنماركي والفنلندي وغيرهم من مواطني شمال العالم .

 ويلجأ العديد من الإيرانيين والعراقيين والبوسنيين والعرب إلى الانتحار في مراكز اللجوء بعد أن ترفض طلبات لجوئهم السياسي أو الإنساني أو اللجوء لاعتبارات أخرى ويطلب منهم الاستعداد للرحيل، وحتى لا يتم إجبارهم على الرحيل ينتحرون والبعض يتظاهر بالانتحار جلبا للشفقة والرحمة حتى يبقى في مواطن ينتحر مواطنوها الأصليون.

 ولأجل إعطاء معنى لحياة الناس في شمال العالم وإعادة تفعيل دور الدين في المجتمع تطالب الأحزاب المسيحيّة السياسية ذات الصبغة الدينية المسيحيّة بإعادة تدريس الديانة المسيحية بشكل رسمي وإلزامي في المدارس وهذه الدعوة يتبنّاها الحزب الديموقراطي المسيحي في السويد وجلّ الأحزاب المسيحية في بقية دول شمال العالم.

والمفارقة في الدراسات التي وضعت في دول شمال العالم لبحث موضوع الانتحار أشارت إلى لجوء أشخاص يتمتعون بمستويات ثقافية عالية بما فيهم كتّاب ومبدعون إلى الانتحار ومنهم الكاتب السويدي الشهير وليام موبيري الذي وضع حدّا لحياته بعد أن أصبح عاجزا عن الإبداع والكتابة كما قال في وصيته.