أيام من عمر مضى (4 -5)

 

علي بن سالم كفيتان

كانت السماءُ تمطر بغزارة والأرض وحلة ولم نر الشمس في قريتنا منذ شهرين تقريباً تقرحت أصابعنا من السير في الأوحال ولا شيء يابس إلا ما جففته بنفسك على النار، كنَّا نلتف أنا وإخواني الثلاثة – حفظهم الله - حول الموقد بينما تنام الأخت الصغيرة في مهدها، الحديث يدور حول الرحيل للمدينة والأخوان يستمعون بكل إنصات لكنني أرى في عيونهم الحزن الذي يلمع في دموع خفية يظهرها بريق النَّار فقط، كنت أسوق لهم المغريات وأعدهم بالهدايا لكني لم أنجح في انتزاع كلمة واحدة منهم جميعاً إنه الصمت والتفكير العميق، كم كان يُحزنني ذلك.

في لحظة دخل أبي مبتسماً وشكرنا على ما قمنا به في ذلك النهار من أعمال يومية لخدمة العائلة في هذه الظروف الماطرة، عصر ملابسه المبتلة، وأخذ أخرى يابسة من على حبل النار، جلس إلى جانبنا واستمتع بالوهج الذي يمنح الدفء، فاجأني بالسؤال التالي ... متى ستنزل للمدينة المدرسة ستبدأ الأسبوع المقبل؟ هنا خفق قلبي ولم استطع الإجابة على السؤال الذي يحمل في طياته موافقة طالما انتظرتها، نظر إليّ مجددا ورأيت إخواني الثلاثة ينسحبون من حول الموقد بوجوه شاحبة ولكنهم ركنوا إلى آخر المنزل ولعبوا مع الصغيرة التي كانت بمثابة هدية الله من السماء لهذه الأسرة التي لم ترزق بالبنات من قبل. لم أخف ابتسامتي بالخبر قام أبي وفتح السحارة التي تعلو الجدار وأخذ منها مبلغاً ودسه في يدي وقال اذهب غدًا مع أخوك محمد للمدينة وباشر دراستك هناك وكل ما أتمناه أن تنجح ونصحني قرابة العشر نصائح جلها في الحيطة والحذر من الانغماس في مُجتمع المدينة، وعن أهمية الالتزام بالصلاة وما إلى ذلك، وضعت نقودي في جيبي وركنت إلى جانب أبي نصطلي بتلك النار التي تعيد لنا الأنفاس في جو ماطر قارس البرودة.

علق أبي لاحقاً بأهمية النزول في الصباح الباكر وألا أقدم على أي طقوس وداعية بل يجب أن أنسحب بهدوء منعا لأي إعاقات متوقعة أو دموع تبعث على الحزن والأسى، طبقت القاعدة وطوال ذلك الليل كنت أسمع زخات المطر على سطح المنزل ولم تغفو عيناي، قمت وصلينا الفجر، ومن ثم احتسينا الشاي والحليب من إبريقنا العجوز وكالعادة سارت الأمور كما كل الأيام حتى ذهب أبي لمهماته اليومية وهنا عاد الثلاثة وتحلقوا حولي وقالوا نحن سمعنا ما دار بالأمس ثم سألوني بصوت واحد متى ستذهب للمدينة؟ انتابني شعور غريب من نظراتهم وأسئلتهم المتكررة ألن تكون معنا في جمع محصول الدجر (الفاصوليا)؟ ألن تكون معنا في جلب الماء كل مساء؟ ألن تكون معنا للاهتمام بشؤون الدار؟ هنا التفت إلى الصغيرة وسلمت عليها بحرارة وذهبت بينما كانت السيارة تنتظرني في الخارج وودعوني جميعهم من على جدار منزلنا الريفي البسيط في أرياف ظفار.

لم تكن لدي أي أمتعة باستثناء نعال ودشداشة ملونة ومصر ترجع ملكيته لقوات الفرق الوطنية ظل رفيق دربي لسنوات طوال يذكرني بالرجال الذين قادوا التغيير في الأرياف، كان لابد من توقف السيارة عند شجرة التين العملاقة وسط القرية هناك ركاب إلى المدينة نزلت من الكابينة وأردفت نفسي في الحوض الخلفي للهيلوكس الحمراء وقبل أن أصعد نادتني من لا تنساني من الخلف ذهبت إليها مسرعاً سألتني أجبتها بكل صدق بكت واحتضنتني بحرارة وأهدتني مبلغا صغيرا وولت وأنا قفزت إلى السيارة وانطلقنا للعالم الجديد. 

بعد أن تم إنزال الركاب كل في وجهته بحثنا عن سكن عوض خميس في صلالة الجديدة قرابة ساعتين حتى اهتدينا إلى بيت أرضي مكون من شقتين وبعد طرق الباب خرج لنا رجل مصري ورحب بي وقال: أنت علي؟ قلت نعم قال: كنا ننتظرك لقد وصل الجميع غادر أخي ودخلت للسكن كان نظيفاً وهادئاً ومجهزا بشكل جيد تعرفت على الزملاء الجُدد وهم من مرباط عبد الله بالخير – وأبوبكر محروس، وأحمد الحكماني، وخالد الكاف، وآخرون بالإضافة لزملاء الدرب من منطقتنا محاد عيسى، ومحمد أحمد استلمت الغرفة وذهبنا للمسجد المجاور لأداء صلاة الظهر.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

مركز الفرقة: (مركز عسكري جنوده شبه نظاميين من السكان القاطنين في منطقتنا).

alikafetan@gmail.com