الحقيقة الضائعة.. رَبَّاه: فِيمَ يأتي الأنبياءُ ويذهبون؟

الناقد/ عبد الجود خفاجي – مصر


من الحقائق الغائمة والضائعة في متاهات التاريخ الإنساني أنّ معظم الذين رفضوا الدخول في الإسلام طواعيةً في بداية الدعوة الإسلامية لم تكن أسباب رفضهم موضوعيّة، ولعل الأسباب ـ دون حصر تام ـ كانت تتأرجح بين أسباب قبلية؛ إذ كان يعزّ على بعض قبائل قريش أن يستأثر بنو هاشم بهذا الفضل. مثل موقف أبي جهل عندما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأعلم أنك لَنبيٌّ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعًا ؟!" ومثل موقفه أيضا عندما قال للأخنس بن شريق: "تنازعْنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟".
ومنها ما يعود لأحقاد شخصيّة مثلما كان حال (أميّة ابن أبي الصَّلت) الشاعر المخضرم، الذي كان من الذين حرَّموا على أنفسهم شرب الخمر في الجاهليّة ، ونَبَذَ عبادة الأوثان، وكان يروِّج في أشعاره الكثير من مباديء (الحنيفية)؛ والدعوة إلى الوحدانية والإيمان بالحياة الآخرة والاعتقاد بوجود الجنة والنار, الدعوة إلى الصلاة واتخاذها وسيلةً وتأمُّلاً في الكون ودلالته على ربوبية الله، ووصفًا للملائكة وعكوفهم على تسبيح ربهم والعمل على مرضاته، وإخبارًا عن اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وحكايات من قصص الأنبياء مع أقوامهم، حتى ظن الناس أنه (النبيّ المنتظر)، حتى إذا ما جاءت دعوة الإسلام على لسان محمد - صلي الله عليه وسلم - رفض الإسلام ، مبرراً ذلك بالقول: "كنت أريد أن أكونه" يقصد إنه كان يتمني أن يكون هو النبي.
وتتابع أسباب رفض الإسلام لتصل إلى "الخوف من لعنة المجتمع" مثل حال أبي طالب عم النبي الذي رفض الإسلام في اللحظات الأخيرة من حياته؛ حتى لا يتقوَّل عنه الناس: (أسلم خوفاً من الموت)، والخضوع للعرف الاجتماعي المحافظ، وهذا الفصيل كانت حجته: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"؛ خاصة أن الإسلام يُسفِّه عقولهم وأصنامهم وثقافتهم. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} ـ[المائدة: 10] ، وهي قضية تبريرية لا دليل عليها من صدق، ولا برهان لها من واقع. ويقول سبحانه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون ولا يهتدون؟.
وهي قضية لو صحَّت لكُنَّا جميعا نسلك ونعتقد ونعيش مثل أبينا آدم، وما كان من داعٍ للأنبياء والرسل والكتب السماوية. إنها قضية الخضوع للرجعيّة والخرافة خضوعاً يتفق وطبيعة الإنسان الجاهلي، وطبيعة إنسان المجتمعات البدائيّة عموما حيث الإنسان، يكتسب قيمته الاجتماعية بمدى محافظته على العُرف، وقدرته على مقاومة التغيير، وحيث الإنسان الذي لا يستند إلى قاعدة إيمانية يحسّ معها بوجوده وبشخصيته وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصيّة كاذبة وأصالة موهومة. وهذه عادة الجاهليين قديماً وحديثاً في تعصبهم القبليّ وخاصة في ما يتعلق بأسلافهم. وهو منطق ينفي العقل الإنساني. ويرفض تطوّر التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية في معالجة قضايا السلف.
ومن أدبيات الرفض للدعوة الإسلامية ما يدخل تحت اصطلاح (المحافظة على التمايزات الطبقية)، وحُجَّة هذا الفريق أن الإسلام سوف يلغي نظام العبودية، ويقدم منهجا تحريرياً، ويساوي بين السادة والعبيد، ويؤكد أخوّة الإسلام: "المسلم أخو المسلم"؛ بل ربط بين الفرد والدور الذي يؤديه بمبدأ (العدالة الاجتماعية)، وجعله مسؤولا في إطار قائم على المساواة: "كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته"، وتلك حقيقة، فالإسلام لا ينظر إلى تمايزات قبليّة، أو رأسمالية، أو دماء ذكيّة، أو غير ذلك، ونظر إلى الناس بعين المساواة، بصرف النظر عن اللون والعرق والجنس والمال وغير ذلك، وجعلهم إخوة في العقيدة وقَدَّم معيارا اجتماعيا جديدا للتمايز الفرديّ في المجتمع المسلم وهو "التقوى"، و"العلم"، ودور الفرد في خدمة العقيدة، والمجتمع المسلم، كما نصَّت الأحاديث النبوية: "لا فضل لعربيّ على أعجمي إلا بالتقوى، والعمل الصالح" ، و"سلمان منا آل البيت" مع أنه عبدٌ فارسيّ، و "الناس سواسية كأسنان المِشط" ، كما نسف التمايزات الرأسماليّة عندما جعل المال كله لله.
وهكذا يمكننا أن نصل إلى حقيقة أن جميع من رفضوا الإسلام كانوا يعرفون أنه الحق، وأن محمداً رسول الله {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} ـ [ الزخرف ـ 87]، و{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} ـ [العنكبوت ـ 61]. وهكذا هي الحقيقة يمكن رفضها لأسباب غير موضوعية، وغير حقيقية، مع علمنا بكونها حقيقة. وإذا كان هذا المنطق قد تمّ اعتماده في معاملة الأنبياء المؤيَّدين من السماء والذين اختارهم الله لمهمة عظمي، فكيف بنا في عصرنا وقد ودَّع الأنبياء الأرض.
المفترض أن الحقائق أضحت أكثر وضوحاً مع تقدم العقل البشري والتكنولوجيا ووسائل العلم والقياس والاستدلال.. فلماذا نرفض الحقائق وننجذب لمجافاتها.. هل لأسباب شبيهة بتلك القديمة؟.. إلى متى يصطرع البشر حول الحقائق مع أنها واضحة، وإلام سوف تظل العواطف، والأهواء والأعراف البالية والأحقاد والثقافة القبليّة والمرامي السياسية حاجزاً بين الإنسان والحقيقة؟
في عصرنا تبدو كثير من الحقائق ضائعة شريدة، وربما هو الصراع القديم المتجدد نفسه، الأمر الذي يجعلني أستعيد قول العقاد: "رباه .. فيم يأتي الأنبياء ويذهبون؟.. وفيم اختلفت الديانات واصطرع عليها المتدينون؟ فيم كل هذا؟.. وفيم جاء للناس رسول من بعد رسول؟ وفيم توالى التابعون بعدهم بإحسان أو بغير إحسان؟.. جاءوا ثم عادوا، وانصرفوا والبلاء باقٍ، ولم يزل داؤنا العياء!.. ألا هل أستعير قول أبي العلاء: تعب غير نافع واجتهاد.. لا يؤدي إلى غناء اجتهاد ؟".

تعليق عبر الفيس بوك