أيام من عمر مضى (3-5)

 

علي بن سالم كفيتان

بعد أن أنهينا الدراسة الإعدادية في مدرسة غدو لزمنا الرحيل إلى صلالة لاستكمال دراسة الثانوية وهذه عقبة أخرى في سجل الحياة فبعد أن قبل الأهل بمبدأ الدراسة في نيابة مجاورة وقبلت أنا التحدي بالاستمرار رغم الظروف المحيطة التي ذكرتها في المقالين السابقين لكن كان الأمر مقبولاً ففي نهاية النهار يتم الرجوع للقرية كل مساء فنقدم المساعدة للأهل وفي الجانب الآخر  أنا لازلت موجوداً أما أن تذهب للمدينة وتغيب الأسبوع بأكمله ولا عودة إلا مساء الخميس ومن ثم الرجوع مساء الجمعة فهذا ضرب من المغامرة بمقتضيات ذلك العصر.

كانت الإجازة الصيفية مختلفة هذا العام فهناك أمل وهناك خوف يتصارعان داخل ذلك الجسد النحيل فالأمل يلهمني المستقبل والخوف يقتات على الماضي الأليم. تجدد صراع الرحيل ومغادرة الأسرة مرة أخرى فبعد التضحيات الأولى والالتحاق بالتعليم في ظروف غامضة لا تخلو من المغامرة غير المحسوبة، تعتبر الأخيرة أقل خطراً وأكثر فائدة في ظل هوسنا بالمدينة وأضوائها البراقة ومطاعمها ودكاكينها التي لا تنتهي في أعيننا الصغيرة التي لم تعتد إلا على دكان مركز الفرقة المقسوم بين علف الحيوانات واحتياجاتنا الأساسية.

في هذه المرة لم يتغير رأي والدتي -حفظها الله- وكذلك جدتي -رحمها الله- عن رأيهما القديم في قضية الالتحاق بالتعليم في ظروف صعبة لكن كان أقل حدة حيث لا دموع ولا جلسات تحضيرية لرفض الفكرة، أما صاحب الرأي الأخير فظل صامتاً وكم يخيفني ذلك الصمت فبعده القرار يكون نهائياً ولا يمكن مناقشته أو حتى استئنافه كون الجدة (المحكمة العليا) ضد القرار من الأصل وهنا يصبح الأمر معلقا بسلطة تنفيذية حاسمة لا زالت تتبع الصمت الرهيب والتجاهل حتى من الإيماء للفكرة.

مرت الإجازة الصيفية كالبرق وفي نهاية أغسطس أحضر خالي - رحمه الله أوراقاً مرسلة لي وجدها في مركز الفرقة أذكر أنه سلمني إياها باليد حرصاً منه ذهبت كعادتي بعيداً خلف القرية تحت شجرة الكليت (شجرة ظل محلية) تطل على مرتفع ترى من خلاله أضواء صلالة، فتحت المظروف الذي عليه اسمي بخط نسخ جميل ولا زلت أذكر لونه الوردي ورسمة الطائرة السوداء الصغيرة في طرفه الأعلى مكتوب تحتها (بريد جوي) كان قلبي يدق بقوة وفي هذه اللحظة وجدت ورقتين الأولى خطاب موجه لي من مدير عام التربية والتعليم في ظفار الشيخ/ عبد القادر سالم السيل الغساني – رحمه الله وفيه وهنا أقتبس من النص (عزيزي الطالب .......... السلام عليكم ..... الموضوع: التحاقكم بالمدرسة السعيدية في صلالة. أولاً أهنئكم من أعماق قلبي كونكم أحد الطلبة المميزين الأخيار الذين كابدوا صعوبة التعليم في أرياف ظفار منذ انبلاج فجر النهضة المباركة وحصلوا على الدرجات التي تؤهلهم للالتحاق بدراسة الثانوية ...... ومن ثم أحب أن أعلمكم بقبولكم لاستكمال دراستكم في المدرسة السعيدية بصلالة إن شاء الله مع بداية العام الدراسي الجديد...... ومرفق لكم استمارة سكن داخلي في سكن عوض خميس بصلالة الجديدة حيث يمكنكم التوجه لمشرف السكن قبل الدراسة لاستكمال استلامكم للغرفة وبقية المتعلقات).     

بعد أن أنهيت قراءتي الدقيقة للورقتين، نظرت إلى المدينة الرابضة على البحر الأزرق الجميل وعلمت أنّه لا مجال للمستقبل إلا من خلال تلك المحطة يخالجني شعور بالوحشة والفرح والخوف معاً فالوحشة على فراق الأهل والأخوان والقرية الوادعة، والفرح باستكشاف المدينة، والخوف من رفض والدي لهذا الأمر خاصة بعد أن أصبحت أقود السيارة وأجلب منافع كثيرة للأسرة كالماء والعلف وغيرها ولا أخفيكم بأنني أشعر بحسرة لمفارقة مقود الهيلوكس الحمراء الجديدة الذي طالما تفاخرت به بين أقراني.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان.

مركز الفرقة: (مركز عسكري جنوده شبه نظاميين من السكان القاطنين في منطقتنا).

alikafetan@gmail.com