كيف تعاطى جلالة السلطان مع التحديات؟ (1- 2)

عبد الله العليان

عندما تولى جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- الحكم في عام 1970، كانت الأوضاع قبل ذلك في غاية الصعوبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعاً، وكنتُ أحد الذين عاشوا تلك الفترة عندما وعينا على تلك الأحداث في سنواتنا اليافعة، في أواخر الستينيات، وما سمعناه من أحاديث كبار السن آنذاك عن تلك الظروف والأوضاع.

إذ أصبحت الظروف لم تعد تحتمل من عثر حياة المواطن وظروفه المعيشية غير المستقرة، وأصبح الإدراك عند عموم المواطنين، أن الأمور تنحدر إلى مرحلة الخطورة إن بقيت كما هي، دون أن تتم الانفراجة للعمانيين في حياتهم الاجتماعية والسياسية عموماً مع وجود التوترات التي تحدث في الكثير من المناطق في كل الولايات العمانية، كما كان الوضع في ظفار مشتعلا ومحتدما آنذاك، وإن كان التطبيق الماركسي للأحداث وتداعياته منذ عام 1968، أثر على مسار ذلك الوضع سياسياً داخل الجبهة وحركتها عسكرياً في العديد المناطق خصوصا بالمناطق الشرقية من جبال ظفار. وفي بداية عام 1970، بدأت بعض الأخبار تنتشر بين الناس بصورة خافتة، بأنّ حدثاً سياسياً سيحصل قريباً في عُمان. إلا أنَّ هذه الأخبار لم تلق ذلك التصديق لأسباب عديدة؛ منها أن الوضع كان معتماً ومتوتراً من حيث التوقعات، كما أن البعض من العمانيين، لربما اعتقدوا أو كانوا يتوقعون، أن الأوضاع ستتغير بعد توحيد الفصائل السياسية اليسارية بعد مؤتمر حمرين عام 1968.

كان جلالة السلطان قابوس، يُتابع الوضع باهتمام كبير من مقر إقامته بمنطقة الحصن بصلالة، وكان يتابع تغطيات الصحف العربية والأجنبية لما يدور في عُمان وخارج عمان وتأثيراته الإيجابية والسلبية على الأوضاع السياسية القائمة. وقد رأى جلالته برؤيته الثاقبة، أنه لا بد من التغيير الذي ينقذ البلاد ويخرجها من الظروف القائمة، وينهي الأسباب التي أدت إلى الحركة المُسلحة في ظفار، واجتثاث جذور التخلف الذي جثم على بلادنا على كل المستويات، وتنفيذ برنامج طموح للإصلاح السياسي والاجتماعي في عُمان، باعتبار الإصلاح هو القاطرة التي سوف  تذلل الكثير من التحديات والمصاعب التي تعيشها بلادنا قبل النهضة. ولذلك كانت أولى التوجهات التي بدأها جلالته هو البناء والتعمير، وأهمها بناء الإنسان العماني وتعليمه وتأهيله، لأنه كما قال جلالته "هدف التنمية ومحورها ومحركها"، وإقامة المؤسسات الرسمية لإدارة عمل الدولة ونشاطها. وهذه كانت من الأولويات التي حرص عليها جلالته منذ توليه مقاليد الحكم، إلى جانب التحرك لإنهاء التمرد في البلاد. وقد بدأ فعلياً وضع سياسات تنهض بالبلاد، بعد فترة طويلة من التراجع والتخلف الذي واجهته عُمان لما يقرب من قرن.

وقد كان العمانيون يعيشون في ظروف صعبة، والكثير منهم هاجر إلى دول الجوار للعمل والعيش الكريم أو من عاش الظروف الصعبة  في داخلها، بسبب الظروف الاقتصادية والأوضاع الحياتية الصعبة في الخمسينيات والستينيات، وكان أول النداءات من القيادة الجديدة، هي دعوة العمانيين في الخارج، للعودة إلى بلادهم، والمشاركة في بنائها، وأول ما تم التخطيط له لبناء الإنسان العماني، كان التعليم والثقافة. وقال السلطان قابوس في بدايات التغيير: "إننا نعيش عصر العلم ونشهد تقدمه المتلاحق، في جميع المجالات، وإن ذلك ليزيدنا يقيناً بأن العلم والعمل الجاد هما معاً وسيلتنا لمواجهة تحديات هذا العصر وبناء نهضة قوية ومزدهرة على أساس من قيمنا الإسلامية والحضارية".

لقد استطاع جلالته، أن يمحو آثار هذه التحديات والعقبات التي كانت قبل النهضة، ومنها إنهاء التمرد في ظفار، بحكمة وبعقلية فذة؛ إذ ركز جلالته على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية والتلاحم الداخلي، ودعا الجميع إلى بناء عمان الحديثة دون إقصاء، وفتح صفحة جديدة، وترك الماضي وآثاره، معلياً شعار "عفا الله عما سلف"، وهذه السياسة لاقت استجابة كبيرة من العديد من  قيادات التمرد في ظفار، ومن كل العمانيين خارج البلاد. وكانت نظرة جلالة السلطان للمشكلة في ظفار، نظرة واقعية وحكيمة، فلم يسع إلى حرق المراحل أو القفز على الواقع، في كيفية إنهاء هذه الحرب في ظفار، وإنما سعى إلى التعامل بروح الإنسانية والأبوية. فالقوة العسكرية، لها آثارها الاجتماعية والنفسية، حتى وإن استطاعت تحقيق أهدافها، فكان التعاطي رائعاً وحكيماً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وأذكر حديث جلالته لصحيفة النهار اللبنانية في 23 فبراير 1973 عندما قال: "إذا كان القضاء على الثورة يعني القضاء على أشخاصها، لكان الأمر سهلاً. كنا أرسلنا طائراتنا وجنودنا وقصفنا ودمرنا كل ماله علاقة بها. لكن هذا كلام غير معقول. طريقتنا للقضاء على الثورة هي القضاء على أسبابها وهي توعية الناس، تعمير ظفار، بناء الطرق والمستشفيات والمدارس. أسباب الثورة في الماضي كانت مشروعة كانت ثورة على التخلف والظلم. لم تكن هناك من وسيلة للتعبير إلا حمل السلاح والعنف. اليوم تغيرت الأمور بدأنا نوفر فرص التنمية ساعين إلى التعاون مع الناس فاتحين أبوابنا للشكاوي.. إن اقتلاع أسباب الثورة يحتاج إلى أضعاف وقت نموها".

هذه النظرة الحكيمة من جلالته، لكيفية التعاطي مع أسباب هذا الصراع وتقديم ما هو جدير بالحل الذي يجمع كل أبناء الوطن وخدمة بلدهم، وهذه الرؤية الإيجابية الواعية- بلا شك- لعبت دوراً محورياً في إنهاء هذا الصراع، وتحقق السلام في هذا الجزء الغالي من بلادنا بحمد الله، واتجهت عُمان إلى ما هو أهم؛ وهو البناء والتنمية في كل مجالاتها، وهو ما عبر عنه جلالته في خطابه في العيد الوطني الرابع: "لقد تحقق على أرضنا بفضل الله وتوفيقه، وإرادتكم القوية وعزيمتكم الصلبة العديد من الإنجازات الكبرى، والعلامات الفارقة بين الماضي والحاضر بالرغم من أن بلادنا مرت بظروف صعبة، ندر أن مر بها بلد في المجتمع الدولي".

وهذا ما كان له الأثر الرائع في مسار النهضة وتوجهاتها وفق التدرج المحسوب الذي لا يحرق المراحل، أو يتجاوزها دون التوازن المطلوب.

وللحديث بقية..