الاستراتيجيّة الأمريكية في مرحلة الأحاديّة القطبيّة

ماهر القصير - السعودية
باحث في السِّياسة الدُّوليّة


في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين سقط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية وكان لهذا السقوط تداعيات من أهمها إعادة خارطة أوربا وآسيا الوسطى فجاءت حرب البلقان وتداعياتها لتثبيت أقدام الناتو على كامل القارة الأوربية, فوجدت روسيا نفسها بلا قوات تقليدية ثقيلة في وسط أوروبا, ولا دول في شرق أوروبا تسير في فلك الاتحاد الروسي الجديد, حيث انفصلت 14 جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق, لتشكل جمهوريات مستقلة لكل منها أهدافها ومصالحها القومية التي قد تتقاطع في ما بينها حتى تصل إلى مرحلة الحروب, ولم يعد يجمع بينها إلا منظمة فضفاضة ذات نهايات سائبة, تفتقر إلى وحدة النظرة والإرادة والفعل, وهي كومنولث الدول المستقلة.
وقد منحت إفرازات الوضع الاستراتيجي الجديد لما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة الفرصة للولايات المتحدة الأمريكية للإعلان عن مشروعها الإمبراطوري لقيادة العالم بأجندة من ثلاث نقاط: الأولى، إعادة النظر في خريطة المصالح الحيوية الأمريكية على مستوى العالم، الثانية؛ الاضطلاع بمسؤولية القيادة العالمية والثالثة؛ إطالة أمد الهيمنة الشاملة أطول فترة ممكنة. وذلك في إطار ممارسة عملية الضبط الاستراتيجي للبيئة العالمية الجيوسياسية  والجيوإستراتيجية. واستندت الاستراتيجية الأمريكية في هذه الفترة على الركائز الأربعة التالية:
أولا - من الناحية الجيواستراتيجي، فإن الاهتمام الأمريكي متركز على منع ظهور أقطاب أو تحالفات لقوى تكون منافسة للولايات المتحدة الأمريكية. في هذا السياق يبدو التفكير الاستراتيجي الأمريكي أنه يعيد إنتاج أجواء الحرب الباردة لاحتواء القوى المنافسة، أو إعادة بعث لنظرية الاحتواء إلى مجال أرحب يرتبط بالاحتواء الشامل للقوى الصاعدة في العالم.
ثانيا - من الناحية الجيوسياسية، فإن قارة آسيا بحكم ديناميكية التطور السريع والثقل الاقتصادي والسكاني والعسكري الذي تتبوأه على الساحة العالمية، فضلا عن اشتمالها على قوى إقليمية متحفزة استراتيجيا وانطوائها على محاور جيوبوليتيكية مهمة، ستشكل قيدا على الحراك السياسي للولايات المتحدة. وعليه فإن هذه الأخيرة، ستسعى إلى بناء ترتيبات إستراتيجية جديدة تَحُدُّ من ديناميات التفاعل الداخلي في آسيا وتمنعها من تهديد المصالح الأمريكية، في صورة تحالفات أوراسية تفضي إلى تعددية قطبية غير متوازنة.
ثالثا - من زاوية إعادة تعريف المصلحة الوطنية، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى تعميم "مبدأ مونرو" الذي بموجبه تأخذ خريطة المصالح الأمريكية وضعا شبكيا له امتدادات عالمية يشار لها بالمناطق الحيوية للمصالح الاستراتيجية الأمريكية في العالم.
رابعا - من زاوية التفاعل الارتباطي بين الجيوسياسي والجيواقتصادي، تسعى الولايات المتحدة إلى استكمال أدوات السيطرة العسكرية على مراكز إنتاج الطاقة في العالم والتحكم في المفاصل الجغرافية لنقل الطاقة، بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى وغازها، وبهذا تستطيع التحكم في السياسة العالمية عبر الهيمنة الاقتصادية.(..)
فقد وصل الحرص الأمريكي على فرض وتأمين بقاء الهيمنة الأمريكية على العالم لدرجة وضع أوروبا واليابان والقوى العالمية والإقليمية الصاعدة خاصة الصين والهند ضمن الدائرة ذاتها، أي منعها من أن تتحول إلى قوة قادرة على منافسة الزعامة الأمريكية للعالم، لكن ما حظيت به روسيا من اهتمامات وما تعرضت له من سياسات أمريكية فاق غيرها من القوى العالمية والإقليمية الأخرى .(..)
فوجدت روسيا أن الولايات المتحدة الأميركية حسمت أمر السيطرة والهيمنة على العالم خدمة لمصالحها الحيوية والقومية, فانطلقت على المسرح الدولي كقطب واحد لا يقف في وجهه أي قطب مقابل، وتصرّفت وكأنها لا تواجه أي تحدّ واعد على الأقل. تمكنت الولايات المتحدة عبر الضغوط الاقتصادية والشروط السياسية من اجبار روسيا على انتهاج سياسات وبرامج اقتصادية تجعلها قابلة للخضوع الدائم للمطالب الأمريكية والغربية، بدأ الاتجاه السريع إلى دمج حلفاء روسيا السابقين في شرق ووسط أوروبا في المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الغربية، خاصة الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وبدأ الاتجاه نحو اختراق الجمهوريات السوفييتية السابقة وتشجيعها على التمرد على العلاقة مع روسيا وإغراء بعضها بالانضمام لحلف الناتو خاصة جورجيا وأوكرانيا، تمهيداً لعزل روسيا وفرض طوق حولها، ثم جاء التوجه الأمريكي لبناء وإقامة درع صاروخية على مسافات قريبة من الأراضي الروسية وخاصة في بولندا وتشيكيا، تحت زعم التحسب لخطر الصواريخ البالستية المحتملة من أول محور الشر “إيران وكوريا الشمالية” لاستكمال محاصرة روسيا وتحييد قوتها النووية وحرمانها من أهم مصادر قوتها التنافسية للولايات المتحدة .
فبعد أن اعترفت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي باستقلال كوسوفا عن صربيا، وما يعنيه ذلك من اخراج كوسوفا من العالم السلافي الحليف لروسيا، ومن دون أي اعتبار للرفض الروسي لهذه الخطوة اقدمت الولايات المتحدة على ممارسة المزيد من السياسات الاستفزازية لروسيا، وجاء توقيع وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس رسمياً على اتفاق إقامة الدرع الصاروخية الأمريكية في بولندا مع نظيرها اليولندي رادوسلاف سيكورسكي، رغم كل الرفض والتحذيرات الروسية التي وصلت إلى درجة التهديد باستخدام الأسلحة النووية في مواجهة هذه الدرع الصاروخية ليعلن أن الولايات المتحدة وصلت إلى الحد الأقصى في الضغط على روسيا التي لم يعد أمامها غير خيارين: إما أن تقبل بالأمر الواقع وترضى بعزلها نهائياً خصوصاً أن التوقيع الأمريكي مع بولندا على اتفاقية الدرع الصاروخية على أراضيها تزامن مع اشارات أمريكية وألمانية يضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، وإما أن ترفض وتعلن التحدي للإرادة الأمريكية وتكون قادرة على تحمل تبعاته. (..)
وقد ولَّدَتْ مرحلة التحول التي مرت بها روسيا الاتحادية في عقد التسعينيات, تحولات متوالية في الموقف السياسي في البلد, بدءًا من العام الأول الذي نشأت فيه روسيا الاتحادية بعد التفكك عام 1992, وصولا إلى بداية القرن الحادي والعشرين حيث كانت تتميز هذه المرحلة للسياسة الروسية محاولة إعادة تنظيم البيت الداخلي في محاولة لإعادة النهوض حيث تم التخلي على المنطق العسكري الهجومي وقد ظهر ذلك من خلال: 1- الإعلان عن سحب قواتها على مسافة 1500 كلم نحو الشرق وبالتالي التخلي عن منطقة وسط أوروبا. 2- التخلي عن فكرة توازن القوى. 3- التخلي عن الفكرة التي نص عليها الدستور السوفياتي 1978 والمتمثلة في "مبدأ الاستفادة من التناقضات الإمبريالية. (..)
و قد تبنّى يلتسين ورئيس وزرائه إيغور غيرار ابتداء من مطلع العام 1992وبناء على نصائح صندوق النقد الدولي, , برنامج “العلاج بالصدمة” الذي يتضمّن إبعاد الدولة كلياً عن الساحة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص عبر مجموعة إجراءات, منها التحرير الكامل والسريع للأسعار والخصخصة على نطاق واسع وتحرير التجارة الخارجية وإغراء الرساميل والاستثمارات الأجنبية . لكنّ ردّ الاقتصاد السريع على هذه الإجراءات كان سلبياً: تراجع متسارع لسعر الروبل؛ تراجع الناتج الداخلي الإجمالي بنسبة 20 في المئة عام 1992 ثم 22 في المئة عام 1993 و15 في المئة عام 1994 ثم 4 في المئة عام 1995؛ تراجع الناتج الصناعي في هذه السنوات على التوالي بالنسب التالية: 18 في المئة, 4 في المئة, 21 في المئة, وتراجع الاستثمارات 40 في المئة, ثم 12 في المئة عام 1995. أما في عام 1996 فقد بلغ تراجع الناتج المحلّي ستة في المئة. وبالتالي زاد تراجع الناتج المحلي والإنتاج الصناعي عن 40 في المئة أي بنسبة عشرة في المئة سنوياً ما بين 1990 و1995, في مقابل نموّ سنوي بلغ اثنين في المئة بين 1980 و1990(..).
يتبع....( السياسة الروسية ما بعد حالة الانهيار)

تعليق عبر الفيس بوك