النَّفسُ والشيطانُ.. رحلة العَدَاوة والغواية

محمد عبد العظيم العجمي – مصر


ونستطرد ما بدأناه عن حديث النفس والإبداع القرآنى فى التصوير والتوصيف، وما صنف لها من الأحكام الشرعية والأخلاقية التى تكفل لها الحياة المطمئنة والتى تعينها على تجاوز هذه الرحلة من الاختبار الدنيوى بفلاح واقتدار{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)}[سورة الشمس] ، وعلى قدر الالتزام بهذه البرامج الربَّانية والاستمساك بأصولها على قدر ما يكون الفلاح والمنزلة فى الدنيا والآخرة، وعلى قدر ما تصنف النفس فى درجات (الأمَّارة واللوَّامة والمُطمئنة).
وقلنا: إنَّه ما من شاردة ولا واردة للنفس إلا وأحاط القرآن بها تفصيلا وإجمالا لئلا يكون للناس على الله حُجَّة بعد ما بين لهم فى الكتاب، ولتكون حجتهم داحضة عند ربهم يوم التجادل والتغابن {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [سورة النحل، الآية 111]، وكذا تعهد الله لهم بالعدل المطلق والقسطاس المستقيم.
واليوم مع نزغات الشيطان ونزوات النفس، كيف يلتقيان؟ وكيف تناول القرآن موضوعهما؟، وكيف بيَّن للنفس مسارب الشيطان ومداخله؟ فبدأ بهذا التكرار لقصة المعصية الأولى للأبوين فى أكثر من موضع لتكون هذه الرجعة النفسيّة كنوع من التحذير والإعلام الذى يثير حفيظة النفس البشرية ضد الشيطان، فمعلوم أن طبع التَّعَصُب فى النفس للجذور الأولى أمرٌ جِبِلِّيٌّ، فإن عَلِمتَ أن أحدًا كان عدوًا لأبويك فعداوتك له تصبح أمرًا حتميا مهما وَطَّنْتَ نفسك على ملاطفته أو مهادنتة، فهذا عُمربن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المعلوم عنه شدته على نفسه وانقيادها له ـ  قال لقاتل أخيه: "لا أحبكَ حتى تحبَ الأرضُ الدمَ المسفوحَ"، ولكنه قال: إنّ هذا لن ينقصه شيء من حقه عنده".. والشاهد هنا هو أن تكرار قصة آدم فى الجنة مع الشيطان رسّخَتْ فى النفس الإنسانيّة عمق العداوة والغواية واستغراقها مع الزمن بين النفس والشيطان، ولا يستسيغ من له شيء من عقل أن تتحول هذه العلاقة يوما أو نوعا ما إلى شكل آخر.. فكيف إذا استحالت إلى موالاة واتباع؟
قلنا: إن زينة الحياة حُبِّبتْ إلى النفس كأمر جِبِليّ وأبيح التمتع بها على الوجه الذى حدَّده الشرع دون إفراط أو تفريط {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[سورة الأعراف، الآية 32]، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [سورة الأعراف، الآية: 31] ، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ  وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا  وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ  وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[سورة القَصص، الآية 77] ، فهذه أوجه الإباحة وما عداها شطط، ومدخل من مداخل الشيطان إلى النفس البشريّة فما فُطِرتْ عليه من حب الزينة لا يكون كله فى المتناول ولا يستوجب التحقق الآنيّ، ولذا كان يستلزم نوعا من الصبر وحَمْل النفس على الاستواء خاصةً فى هذه اللحظة التى تتلاقى فيها رغباتها، مع فتن الحياة ومغرياتها، وتربّص الشيطان بكيده وعدده {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ  وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [سورة الإسراء، الآية 64]،  ومن هنا يدخل ويشرع فى مرحلة الغواية؛ فالشهوة والشهرة وحب الرياسة والكبر والطمع وحب الخلود... إلخ ، كلها من مداخل الشيطان إلى النفس وما يستبدأ به عمله معها فيثير فيها حب المتع والانكباب عليها وطلبها من غير ما يقتضي أو يسيغُ الشَّارع الحكيم.
ولكن فطرة النفس القويمة غالبا ما تكون عصية على ذلك، خاصةً إذا ما كانت فى مراحلها الأولى لم يَرُنْ عليها من غبار المعاصي ولم تتراكم عليها من سخائم الذنوب مايشوّش بريقها،  ولذا كان لا بد من التلبيس عليها والتخليط ومصانعة النُّصح لتنطلى مثل هذه الخُدَع على النفس، وهو بعينه ما كان مع الأبوين فى الجنة {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [سورة الأعراف، الآية 22]، وهى من إنزال الدلو فى البئر برفق وأناة (بغرور)  مع إظهار الشرّ الذى يريد بهما على غير صورته، { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[سورة الأعراف، الآية 21] بالتوكيد على إخلاص النُّصح والخير مع استعمال القسم، {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ} [سورة طه، الآية 120] إنه بِعينه خبثُ التواضع عند العرض مع مغازلة وَتَر الطَّبع النفسيّ وحب الخلود والملك.
وهكذا يستميل الشيطان النفس نحوه من باب تقديم الخير والنفع، ومع ميل النفس والوقوع فى المعصية تتحقق الغفلة الأولى فتكون معها الغواية { وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} [سورة طه، الآية  121]، ولكن تأتى الفطرة السويّة وهي ما تسمى بـ"النفس اللوامة" لتعيد لها التقويم بعد التوبة والأوبة والندم بعد الشرود عن طريق الحق فترجع، فإن تكررت المعصية مع تكرار التوبة فلا مجال للشيطان علَّ هذه النفس، كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم في كتاب إتحاف المسلم بما في الترغيب والترهيب من صحيح البخاري ومسلم: عن حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ}.
فإذا ما تكررت المعصية مع الاستمراء والمعاودة تنتقل النفس من مرحلة الغواية إلى مرحلة الضلالة وتسمى في الاصطلاح القرآنيّ بـ"النفس الامَّارة"،  وتتمكن منها الغفلة ويستولي عليها الشيطان فتكون له التبعية، ثم الولاية ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ سورة الأعراف: 175-176]
والله تعالى لم يترك النفس لتكون عرضة للشيطان بمفردها فيتسلّط عليها، ويكون الصراع بين قوى غير متكافئة فتكون الغلبة حتما للشيطان، فهو كما قال تعالى {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ  إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [ سورة الأعراف، الآية 27] إنّه مختلف فى مادة الخلق والتكوين؛ - من حيث القدرة لا من حيث الأفضليّة ـــ عن الإنسان فلا تطيق النفس صراعه ولا تحتمل مجابهته؛ لكن الخالق جلّت قدرتُه، وعزّت إرادته جعل للنفس الإنسانية دوما حمى ومِنعة فتتحصن  بنصرته، وتستقوي على الشيطان بنجدته، وتحتمي بسلطانه المنيع من "الشيطان وقبيله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[سورة فُصِّلَت، الآية 36]، { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }[سورة الأعراف، الآية 201]، وحثّها على التحصن بالمعوذات،  وأصَّلَ لها من برامج الحفظ والذِّكر ما لو تمسكت به لم يكن للشيطان عليها سبيلٌ،  وبيَّن لها أن كيد الشيطان "كان ضعيفا" إذا ما كانت النفس لائذةً دائما بـ(جَنْبِ اللهِ)، ومع المداومة على الذِّكر والعبادة والاستمساك بحبل الله تصبح النفس (آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً) فى حفظ وعناية إلهيّة من تسلّط الشيطان عليها، كما سأل الفضيل بن عياض رجلا: ماذا تفعل إذا نبحك كلب الغنم؟، قال: أرميه بحجر، قال: فإن عاد، قال: أرميه بحجر، قال: هذا أمر يطول،  قال: فما أفعل؟، قال: تستعين برب الغنم يكفك الكلب.. ، وسمّاه (الخناس) كنوع من التحقير والتصغير ومهما عظُمَ كيده للنفس فإنه لن يتعدى كونه (وسواسا)؛ إلا أن يكون الإنسان من أتباعه وأوليائه فهذ الذى لا ينظر الله إليه بحفظه ولا يبالي بأى وادٍ هلك.
ومن براعة الخلق التى أودعها الله فى النفس تلك الحرية النفساوية اللامحدودة التى منحتها على إثر التكليف الذى ألزمت به بعد أن اختارت حمل الأمانة التى أشفقن منها السموات والأرض والجبال، وإذا كان الجسد يمكن أن يُقيد وتُحدُّ حريته فإن النفس لم يجعل الله لأحد غيره عليها سلطانًا ولا سبيلا، كما لم يجعل سلطانه عليها إلا فيما قضى وقدَّر، أما فى مسألة اختيار الإيمان والكفر، والتزام الشرع أو الحياد عنه، فقد جعل لها الحرية المطلقة، وهذا مما تقتضيه حكمة الحساب والجزاء.. وهنا تأتى الحُجَّة الدامغة على كل نفس من نفسها مهما حاولت التَّنصلَ والتعذَّر، حتى إنّ الشيطان يُقِرُّ معترفًا بهذه الحقيقة حين يعلن  خطابه لأهل النار بعد العرض على الله وموافاة الجزاء، فيقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ  وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم  مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ  إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ  إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[سورة إبراهيم، الآية 22]،  هكذا يتبرأ الشيطان من أتباعه وأوليائه وينفى عن نفسه أى سلطان له عليهم فيقول (مِنْ) للتبعيض، أىّ: نوع من أنواع السلطان: (حجة أو قوة) . . والمشهد مع ذلك متكرر فى القرآن بأبلغ مثالن وأبين تصوير، حتى يكون فى التكرار تنبيه للغافل وتذكير للناسي وهو واقع معايش كل يوم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[سورة الحشر، الآية 16]، { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ  فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ  وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، [ سورة الأنفال، الآية 48].
وهكذا يُخْتَتم مشهدُ الصراع بين الطرفين (الإنسان والشيطان) فى كل مرة بتبرأ مهين من الشيطان وتنكّره لأتباعه، وإعلانه الضعف والعجز فى الآخرة حتى عن إصراخ ( إنقاذ) نفسه من العذاب، أفلا يكون فى هذا الختام وحدَه ما يكفي لردع النفوس فتتبرأ قبل فوت الأوان ـــ  كلٌّ من شيطانه ــ  قبل أن يتبرأ الشيطان منها يوم لا يجدي ندم ولا تنفع شفاعة ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ  فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[سورة فاطر، الآية 5].

تعليق عبر الفيس بوك