كيف نسيطر على الأزمات ونحدّ من تجدّدها؟

د. عيسى الصوافي
دكتوراه في إدارة الأزمات


في المقالة السابقة تحدثنا عن (صور الأزمات وأنواعها مع ضرب أمثلة واقعية، وذكرنا أيضا أهم الاستراتيجيات المتبعة في احتوائها، وأساليب مواجهتها)، واستكمالا للسياق العام الذي تعالجه هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها جريدة الرؤية سوف نجيب هنا على سؤال أثاره بعض القراء وهو: كيف نسيطر على الأزمات؟
 ونستطيع أن نقول بأننا في وضع السيطرة عندما يغدو في إمكاننا ضبط كافة عناصر الموقف ضمن حدود إرادتنا، فنتمكن من حصرها في نطاق مقاصدنا والنتائج التي نسعى إليها. هذه الوضعية تبرز من خلال السيطرة على المسببات التي كانت وراء قيام الأزمة والسيطرة على الخسائر التي أسفرت عنها كذلك.
أولا – القيام بضبط مسببات الأزمة:
 في الواقع، التصدي للأزمة لا ينتظر حتى أن تندلع، بل إن هناك عددا من التدابير يمكن اتخاذها قبل الوقوع وبعد الوقوع. فمن الحزم أن يتم الاحتراس من حصول الأسباب التي تؤدي إلى اندلاع الأزمة ومن الحزم كذلك بذل جهود التصدي لكل العوامل التي تخلق الأسباب التي أدت إلى وقوعها.

ثانيا - تلافي أسباب الأزمة:
 بمعنى العمل على تجنب قيام الأسباب التي تكون وراء اندلاع الأزمات وهي أسباب يمكن رصدها على الصعيد البشريّ وعلى صعيد المحيط الطبيعي. فعلى الصعيد البشري يمكن العمل على الحيلولة دون تناسي سلوكيات اللامبالاة والإهمال بالنسبة للحوادث البشرية كاندلاع الحرائق بالغابات التي ما يكون سببها أعقاب سجائر أو بقايا حطب مشتعل بين الأشجار (..) أو إراقة مواد بترولية في محطات التزود بالوقود، مما يتسبب في أية شرارة ويوقد النار أو غيرها. ويمكن أن نصنف هنا كذلك قرار صب المياه العادمة، إما في الحفر أو الأنهار دون العلم بالأضرار التي قد تلحق بالثروة المائية أو الكائنات الحية التي تعيش بالأنهار أو على ضفافها.
كذلك تتبدى ضرورة حيلولة رجوع أسباب الأزمة على الصعيد البشري بالقضاء على بواعث العمل الإجرامي للشخص الإرهابي وتكون بإيقاف الزيادة في الضغط النفسي لديه وتفادي ما يدفعه إلى فقدان الصبر والقفز إلى تنفيذ نواياه وارتكابه الفعل المحظور. فيكون من المفيد فهم طريقة تفكيره واستقباله للمعطيات والعمل على امتصاص بواعثه لإطلاق إشارات عامة توجه بطريق غير مباشرة إلى العموم، باعتبار أن الشخص بعينه غير معروف ولكن يمكن أن يكون مهيئا للقيام بالعمل الإجرامي من بين الجمهور. فاعتماد سياسات تحد من صدور ردّ الفعل الهائج أو تمنع التأويل الخاطئ، تؤدي لا محالة، وبصورة فعالة وقف اندلاع الأزمات.
كذلك تبني الإجراءات التنظيمية التي من شأنها عرقلة القيام بالعمليات الإرهابية والفعل الإجرامي وتلعب دوراً في إحباطها وعرقلة الإنسان المنحرف عن القيام بأية عملية تخريبية، فالإجراء التنظيمي يبرز مثلاً في وضع حواجز تمنع الوصول المفتوح لمقار البرلمانات وتنظم الولوج إليه من مسافات بعيدة. كذلك وجود كاميرات للمراقبة ظاهرة للعيان ترصد أي تحرك مثير أو منفعل من شأنه أن يوجد لدى المجرم شعور بالشك من تحقيق مبتغاه ويزيد من الارتباك الذي ينتهي إلى ثنيه عن الإقدام على فعلته.(..).
أما على الصعيد المحيط الطبيعي بالنسبة للحوادث التي تنجم عن الطبيعة وتخلق الأزمات، فإنه لا سبيل إلى تجنبها ولا قوة له في منعها؛ بل العمل يكون بالحد من حدوثها، ومثال هذا مثلاً انزلاق التربة التي تأتي من سقوط الأمطار الطوفانية، فتغرق قرى بأكملها في الوحل وتلحق خسائر بشرية في الأرواح. كذلك ما يأتي في الوقت الراهن من تقلب المناخ من جراء الاحتباس الحراري، حيث أصقاع عديدة من المعمور مهددة بالغرق من جراء ارتفاع مستوى البحار والمحيطات وانهيار الثلوج بين القطبين الشمالي والجنوبي وأيضاً التجارب النووية التي تهدد بجعل الأرض جرداء ولا تؤمِّن الحياة لأية كائنات حية حيث تتسبب في ضياع الكساء الطبيعي للأرض وأيضاً إزالة المراعي البحرية مما يأتي بالفناء على الثروة السمكية والبحرية(..).

ثالثا - الحد من بقاء المسببات بعد الأزمة:
(أ‌)    التصدي للأزمة: هناك قسم كبير من الجهد لابد من القيام به بعد العمل على تلافي أسباب الأزمة وذلك بالانتباه إلى احتمال عودتها من جديد في شكل مختلف أو مماثل. ويمكن رصد هذا الشق من التصدي على عدة مستويات:
فعلى المستوى الشخصي حيث تتعجل القضاء على الأسباب التي خلقت الأزمة لدى الجمهور في ذاته أو صحته. فمثلا العدوى التي تنتشر وتخلق أزمة في الصحة العامة سيتم التصدي لها بتنظيم استعمال اللقاحات وآليات الأجهزة الصحية تتكفل بذلك. لكن إذا تبين أن اللقاح قد انتهت صلاحيته أو أن تنظيم العملية اعترتها ثغرات على مستوى البنيات الصحية، فإن السبب سيمتد ويزيد تفاقم الأزمة بدل الحد منها. الشيء نفسه على مستوى ذهنية العامة إذا فشلت وسائل التعبئة العامة في شحنها لمواجهة الأزمة ورفع مستوى رفضها لبواعث وآثار الأزمة، فإنها تركن إلى السكون وقبول الأمر الواقع، مما يشجع العمل الإرهابي الذي كان وراء قيام الأزمة وأن يزيد بدلا من أن يتوقف بانخراط الجمهور والرأي العام في محاربته (..).
أما على المستوى المادي، فتتجلى إما في عدم توفر الوسائل المادية الكفيلة بصد الأزمة والحد منها، فيزيد الأمر استفحالاً وتتحول الأزمة إلى كارثة متفاقمة. وتظهر كذلك عندما تواجه الدولة حالة أزمة ولا ينتبه المسؤولون إلى تدخل عناصر أخرى بأعمال سلبية، فيتصاعد أثر الأزمة الأول. كمثال حالات الانفجارات، إما بعمل إرهابي أو عفوي جراء تسربات أنابيب الغاز في عمارات السكن أو المصانع، فيكون الضرر الأول ويمكن أن تتسع دائرة الخسائر إذا ما حدثت بعد ذلك عمليات نهب بأماكن الانفجار. ويمكن تقوم كذلك كارثة لأسباب قاهرة كالفيضانات أو الأمطار الطوفانية، وبعد النهوض والتصدي لها تقوم كوارث جانبية جراء انتشار الأوبئة من البرك كالملاريا، فتجد السلطات نفسها أمام أزمة أخرى تنعش من الأولى، مثال آخر نسوقه في الاتجاه نفسه وهو غزو موجات الجراد للأراضي الزراعية، إذ في حالة وقوعه يؤدي، استعمال السلطات للكميات الضرورية من المواد الكيماوية لإبادته، إلى إفساد التربة وإضعاف خصوبة وقدرة الأرض على الإنتاج، مما يشكل أزمة مواكبة تنبعث من الأزمة الأولى.
(ب‌)    حصر الخسائر وتقليصها: نستطيع كذلك أن نسيطر على أوضاع الأزمات عبر ضبط وتقليص الأضرار الناجمة عنها، ويتسنى لنا هذا بالعمل على تقليص الخسائر خلال الأزمة وبعدها كذلك.
(1)    حصر الخسائر خلال الأزمة: نستطيع السلطات أن تحد من الضرار التي تنشئ الأزمات، وذلك على الصعيد البشري وعلى الصعيد المادي كذلك.
على الصعيد البشري: المفروض أن تعبئ السلطات كل الإمكانيات المادية المتوافرة لدى الدولة قصد الحفاظ على أرواح المواطنين وتجنب كل ما من شأنه الرفع من وتيرة في سقوط الضحايا أو الحد على الأقل من أعدادهم، مع الانتباه لتفادي تدخل أطراف أخرى، قد تزيد الإمعان في الإضرار بالناس. هكذا فالسلطات تكون في مواجهة الأزمة ومواجهة الأضرار الجانبية التي قد تحدثها جهات معادية داخلياً أو خارجياً(..). كما أنه لا يكفي تركيز الحرص على الحفاظ على الأرواح فقط، بل حتى على ما يمس معنويات المواطن ونفسيته. ذلك أنه عندما تحدث الكوارث وتقوم الأضرار هناك من ضعاف النفوس أو المنحرفين أو الخارجين عن القانون، ومن يبادر إلى استغلال ظروف الخسائر وانشغال السلطة بمواجهة الأضرار، فيزيد من مآسي الناس وآلامهم بالاعتداء على الأعراض أو اختطاف الأطفال والنساء أو ترويج ما ينكأ الجراح باستغلال الآلام التي تنتجها الأزمات للناس بنشر الفظائع واستغلال الاحتياج والضعف. وهو ما نراه في واضحة النهار، حيث انتشرت ظاهرة تنظيم (الدعارة القسرية) و(تجارة الرقيق الأبيض) في (مخيمات اللاجئين) بمناطق النزاعات المسلحة عبر إشاعة ما يسمى بقواعد الزواج العرفي وزواج المتعة وغير ذلك من الأساليب التي يرضخ لها الضحايا وتغض السلطات المضيفة عنها الطرف.
أما على الصعيد المادي: فمن واجب السلطات حماية الممتلكات من التخريب أو الضياع أو السرقة. فالوقائع رصدت نماذج عديدة لمن يستغل انشغال الناس بإنقاذ أرواحهم وأرواح أسرهم، فينقض على الأمتعة والأموال المنقولة والثمينة ليطير بها أدراج الرياح.
(2)    حصر الخسائر بعد الأزمة: هي عملية بدورها تقوم بالسيطرة على الأزمة وضبط مضاعفاتها التي تأتي لاحقا. فمن المعلوم أن الأزمات عندما تنتهي وتزول فإنها تترك البنيات والمحيط والسلطات في حالة من الإنهاك وتقدم تربة خصبة لاندلاع أزمات تالية ومنها على سبيل المثال. )تفاقم الوفيات بين الناس المدنيين نتيجة كوارث المجاعة أو انتشار الأوبئة التي تسفر عنها الفيضانات أو الأمطار الطوفانية). و(ضياع الممتلكات، وتتم كذلك بعد انتهاء الأزمة مع انطلاق أشغال التطهير للمناطق المنكوبة أو الأماكن المتضررة، حيث يسعى المتطفلون إلى استغلال هذه الظروف الاستثنائية، إما للاستيلاء على ما لا يدخل في ملكيتهم، وذلك بالسرقات أو احتلال الأماكن ومحال الغير وأملاكهم، اعتقاداً منهم بأن أصحابها قد لقوا مصرعهم خلال اندلاع وتوسع الأزمة). كذلك (انتشار  تجارة الرقيق الأبيض التي تصبح من مخلفات الأزمة قياساً مع الوفيات أو تعبئة الرجال أو تزايد حاجة الناس(..). و(تفاقم المشاكل الإقتصادية والاجتماعية، وهي من الهواجس العامة التي تطفو تدريجيا بعد وقوع الأزمات، حيث تتكاثر البطالة أمام تدمير المصانع وأماكن العمل أو فساد الأراضي الزراعية، لما تتعرض له من مبيدات كيماوية إبان محاربة موجات الجراد التي تعبر حدود الدول فتهلك الزرع والضرع وتغدو الفلاحة في خبر كان. وهذا، يؤدي إلى الهجرة إلى المدن مما يزيد من ظاهرة التسول أو الجريمة أو الفساد.

تعليق عبر الفيس بوك