ومدى الدهر عُماني

سلطان الخروصي

مضت سبعة وأربعون ربيعا وعُمان ترفل بحقب تاريخية ماجدة، اتسمت بعُنفوان تنمية الإنسان المُتلهِّف بعشقٍ حضاري خالد يزدانُ حُبًّا وأُلفة بين جموع الشعب وعدالة الحاكم، هي ملحمة خالدة يشدو برُبابتها التاريخ ليُسمع أثيرها جموع الأمم والشعوب، فيرشفون من معين جنائنها أرجوزة المدنية والتحضر؛ فأضحى اسم "عُمان" نغما تتعطر به ألسنة الطفولة الواعدة، وتصدح به فخراً حناجر الشبيبة الظافرة، وتلهث بعبقها ألسنة آبائنا وأجدادنا الذين عمروا مجان الطاهرة خير عمارة.

وقد تنوعت حقب التاريخ العماني في عهد النهضة الزاخرة، والتي عضت بالنواجذ على مفاصل المواطنة والانتماء. والمتتبع لسيرورة الزمن العماني في عهد السلطان قابوس يلحظ أنها تمضي قدما نحو بناء مفهوم ودلالات دولة المؤسسات العصرية القائمة في المقام الأول على سواعد المواطنين والتي تمثل باكورة الازدهار الحضاري في مختلف المجالات المدنية سواء السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعمرانية.

لقد قطع القائد العظيم عهداً خالداً على نفسه بأن يرفل كل عماني بالعيش الهانئ الرغيد، فاستطاع أن يوحد الصف ويلم الشمل، معلناً العفو والصفح عمن أجرم في حق الوطن والمواطن متوشحاً في ذلك فعل النبي الكريم حينما فتح مكة فقال لأهله: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فلم يكن جسوراً على الضعفاء، ولا متعجرفاً على المهزوم، ولا سيفاً مسلطا على من أعمته قبليته أو تزمت بالدين والمذهب والفكر. لذا خلد التاريخ تلك الملحمة التي دفعت جموع العمانيين للوقوف خلفه وشعارهم "ماضون خلفك لا شقاق ولا فتن"، كما أنه لم يحجر نفسه ووطنه عمن كانوا أعداءه وأعداء الوطن بالأمس، فعانقت جميع دول العالم.

أضف إلى ما سبق أنه لا يخفى على عين بصير الموقف العماني الذي انتهجه السلطان قابوس سياسته الخارجية مع كثير من مجريات الأحداث الملتهبة، ففي المشهد الإيراني نجد أن الفكر المستنير لقائد النهضة المباركة يستوحي مبدأ الحوار والجوار بمسؤولية حضارية وتاريخية عميقة، قوامها المصالح المتبادلة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ فكانت السلطنة تقف موقف الحياد في الكثير من الأزمات التي تكون فيها إيران طرفا مباشرا مع دول الجوار أو مع تطورات المشهد العربي، فبعد المأساة التي عصفت بالعلاقات العربية-الإيرانية إثر حرب الاستنزاف بين العراق وإيران على مدى ثماني سنوات عجاف (1980-1988م) نجد أن الموقف العماني كان يتوخى الحذر لينزوي بعيداً عن التصعيد أو الاحتكام للرصاص والمدافع، بل كان يدعو لتغليب الحكمة والعقل والاحتكام للروح الإنسانية النبيلة، أضف إلى ذلك أنها القطر الوحيد في المنظومة الخليجية التي تتمتع بعلاقات وطيدة مع إيران باسم الإنسانية وحسن الجوار، متناسية في ذلك شبح المذهبية المقيتة التي يتعاظم أثرها المخيف في نفوس كثير من الأنظمة الخليجية والعربية، فنأت بنفسها عن أن تكون مياهاً راكدة تقطع حلقة الوصل بين الخليج العربي والبوابة الشمالية له بفضل القيادة الحكيمة والحنكة السياسية النبيلة؛ فكانت محل ثقة الإيرانيين في التعامل مع كثير من المواقف الخليجية والعربية والعالمية، ولا أدل على ذلك من أن عمان شكلت على مدى السنوات العشر الأخيرة جسر التلاحم والتواصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في وقت كان الكل يرى فيه استحالة أن تكون هناك أي بوادر للقاء من هذا النوع لتتوج تلك اللقاءات بتوقيع اتفاقية نووية بين إيران والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في 2015، وعلى الرغم مما تتمتع به السلطنة من تنوع مذهبي إلا أنها استطاعت أن تشكل لحمة من الانسجام في دول المنطقة لتكون باكورة فريدة من نوعها في وقت تشهد فيه المنطقة غليان مذهبي مخيف.

وفي الداخل العماني، نجد أن التعامل مع كثير من الأفكار والمواقف والأزمات اتسمت بالحكمة والمسؤولية الوطنية الرائدة؛ وكان التعامل المسؤول من قبل القيادة الحكيمة فريدا من نوعه ومتميزا؛ اتسم بالتعامل مع الموقف من خلال تبيان الحقيقة والعض بالنواجذ على مقدرات الوطن والإيمان بقدسيته، كما أن الكثير من الاعتصامات والإضرابات التي توالت على الساحة العمانية والتي كانت تنادي جهاراً نهاراً بالإصلاحات التعليمية، والاقتصادية، لاقت آذاناً صاغية من قبل القيادة الحكيمة؛ لأنها على قناعة تامة بأن أربعة عقود من البناء والتطوير الإنساني كفيلة بخلق جيلٍ واعٍ يقرأ الأحداث بمسؤولية وتبصرٍ في سبيل رفع راية عُمان خفاقة بين الأمم.

فحُق لجلالة السلطان قابوس أن يفخر بوطنه وشعبه، وحُق للعمانيين أن يرشفوا من كأس الخلود الحضاري لباني المسيرة الظافرة، وحُق لنا أن نجلجل أقدامنا وأيدينا تصفيقاً وتعظيما للقائد الوالد، وحق للجميع أن يقلدوا التاريخ وساماً خالداً ويطربوا العالم بسيمفونيتهم الهادئة الصامتة ويغنوا أوركسترا التضحية والفداء الحقيقي بعيداً عن الهلامية والنفاق.

وكل عام وعمان للخير عُنوان...

 

* العنوان مقتبس من وسم الهيئة العامة للإذاعة والتليفزيون

sultankamis@gmail.com