وداعًا.. أنا لم أفهم والأرض تحتضر

صفاء الكثيري - باجة - تونس


مفتتح:
حين تتأرجح بين رغبتك الشديدة وعدم قدرتك، حين تتوجس أهي فعلا ما خلقتَ لتفعله! حين تختبيء ملكة الإلهام وراء شجرة في لعبة غميضة ملعونة، لكنني لا أستطيع إلا أن أكتب حتى إن كانت لغتي ركيكة  ومبتذلة بشكل  مريع..
(2) وداعا.. أنا لم أفهم
الأفلام، المسرحيات، الموسيقى والورود وحتى بنت الجيران الصغيرة لم يعودوا كافين لمجابهة العالم.. رغبتي في وجود الباب الخلفي تنخر عقلي أين هو أين هو! لنهرب أظن أن سبعة مليار ويزيد سيتدفقون من الباب الخلفي للعالم بطريقة مفزعة، عجلة كأحصنة كثيران سننسى التحضّر واللباقة و نهرب نهرب شيبا وشبابا ونتدافع، تحملنا الرغبة الجامحة في التحرر إذ أننا سئمنا.. أغاني فيروز الصباحية التي ما عادت تجدي ولا تعدل مزاجي كما كانت تفعل من قبلُ لأني اليوم أسمعها حقيقية، يصدح صوتها الذي يدعوك للفرح  لكنها تنتهز الفاصل الموسيقي لتبكي تبكي بحرقة، ثم تواصل الغناء وتحافظ على الطبقة نفسها و.. الدموع..  إلى نهاية الأغنية وتصرخ وتنشز بصمت في اللحن الأخير..
المسرحيات لا تضحكني. صوت عادل إمام وحركاته ولمعة عيونه وسخريته تجعلني أنتحب يا لهذا هذا الرجل يالهذا الكم الهائل من الدموع لو عصرته لن تجد ضحكات، صدقني ولا نِكاتَا ولا تهكمًا؛ بل بكاءً مرًّا، ببساطة ستبتلُ.. إننا نبكي جميعنا.. وكل شيء حولنا.
السؤال هو: أين نخبيءُ البكاء الصامت؟ أخاف أن يمتلأ هذا المكان السري ويفيض ونغرق.. نغرق، أفلام الكرتون تحزنني، و"سبونج بوب" يكذب على نفسه، أشفق عليه جدا، كم من المؤلم أن تكون أصفرَ، أن تكون مربعا.. وتردد "أنا مستعد" باستمرار؛ سبونج بوب لم يكن مستعدا أبدا، سبونج بوب ليس ممتلئا بالطاقة الإيجابية، إنه أصفر وحزين، ولديه كم هائل من الثقوب والوجع..
لكنني لا أنكر أنني أضحك  أيضا، أنا اضحك من أغنية "راحت و شو بيضل غير الهم.." أقهقه بشدة عند سماعها حتى سوداوية كافكا تضحكني، المسلسات الدرامية حيث يموت الحبيب وتتأوه المحبوبة من الوجع  تقنعك فعلا.. مشهد مروّع وبائس أغرقني في هستريا ضحك مخيفة، مريبة حتى التفت إليّ المتفرجون في القاعة وانفجروا باكين، يوم وفاة جدتي ضحكت بشدة حتى أعوج فكي، حين حملوا نعشها - كانت جنازة مهيبة - أخذت أردِّد نكاتٍ سخيفةً وسط الجموع وأتهكم على نحيب النسوة "يا جدة وخاايتي لشكون خليييتنيي شوو صفاء بقاات وحدها" كنت أتفنن حينها، ألحن هذا النواح في ذهني وأدندنه ولازلت أضحك.. لا زلت أضحك للآن وأنا أرى جسدي يشوى ويتشكل مجددا ثم يشوى ويحترق بهدوء بهدوء.
.. رائحتي تستفزني تضحكني أكثر.. الجحيم مزدحم.. لقد أصابني خلل في المشاعر، ملل، كلل و..علل وشلل.. أمسكت يومها القلم وأردت كتابة رسالة انتحار لائقة، لم أكتب رسالة طويلة..  فقط كتبتُ:"وداعا أنا لم أفهم" كتبتها وقهقهت مجددا.. انطلقت نحو النافذة وحلَّقت واستسلمت بهدوء بهدوء لم أبكِ أو أضحك فقط أتوق نحو الباب.. عند ارتطامي بالرصيف كان الرصيف يندب حظّهه ويرجوني أن آخذه ليهرب معي...
(3) الأرض تحتضر
الغربان بالخارج تطلق نعيقها المخيف.. نهتز جميعا.. نحن هنا واقفين بيأس حولها.. الأرض على سرير الموت، الأرض تحتضر.. نساؤنا العجائز يلطمن خدودهن المتعبة، كهولنا يضمدون جراحها بجلودهم، والصِّبية يحاولون تدفئتها، يشعلون النار بعظامهم ، الصبايا يلحن أغنية يتيمة علها تبرأ. ويطرزن وشاحا أخضر.. والأطفال يركضون في الشوارع حفاة عراة يبحثون عن بذرة يانعة.. نحن نبكي بشدة وحرقة، نخر لِلربِّ ساجدين، انفخْ في صورتها يا رب.. الحقيقة تصرخ في دموعنا لن تبرأ،، لن تبرأ.. وبقوانا الضعيفة نضرب الحقيقة بالحجارة.. الأرض لا تموت الأرض لا تموت. لكننا كنا نشم رائحة الفناء في الأرجاء وننكر. نقول إنه حزننا المتعفن .. ياه يالهذه السيدة الحبيبة شعرها المصبوغ بالحناء تساقط بيأس، عيناها الحلوتان جاحظتان في العدم، سفساريوها ملطخ بالوحل.. إنها لا تبتسم لنا كما في غابر  الأيام .. إنها تبكي.. الغربان تسأم الانتظار تدخل علينا تغزونا تبعدنا عنها ونحن نقاوم.. تنقر أنوفنا وأنفتنا، تدمينا تجرحنا تغرس مخالبها في لحمنا الحزين وتنهشه.. نحن ننزف وننزف.. نهرب ونهرب شيبا وشبابا نركض حيث لاندري نتركها هناك، الأرض ساقها مبتورة لا تقوى على الهرب.. سمعناها تئن كجرو تناجينا تتأوه، ثكلاء  تتلوى وتنوح.. لم نلتفت.. لكن واو الوطن خنقتنا، إلى أين نلوذ من بعدك يا سيدة، أين تستلقي أجسادنا المنهكة إن لم ترتح في طائك ونونك.. حزن عميق..  هناك في الأفق البعيد كان البحر يلوح لنا، يغوينا، يقول: تعالوا تعالوا وابكوا في حضني.. نحتار، نستنفذ، نشتهي.. نستدرك لقد تركناها! تركناها هناك أي خطيئة هذه.. عودوا عودوا تجاهلوا البحر، اجلبوا الشمس، وهرولوا نحوها. وعدنا، عدنا حفاة عراة، نتعثر ونقف نهرول، تسبقنا العبرات. لكن حين وصلنا كان الأمر قد انتهى..

تعليق عبر الفيس بوك