المواطنة الوظيفية.. متى يُحاسب المسؤول؟

د. سيف المعمري

المواطنة.. هي الشعور الصادق بالانتماء نحو الدولة بصفة عامة، ونحو مؤسسات العمل، ونحو المجتمع؛ وبالتالي لا يمكن أن تكون المواطنة بالتجزئة، إنما هي بالجملة؛ أي يكون المواطن منتميا ومنتجا ومثابرا على مختلف المستويات وفي جميع الحالات. وبقدر اتساع دوائر ممارسة المسؤولية من قبل المواطنين، لابد أن تتسع دوائر حماية تفردهم وتميزهم ومشاركتهم وعدم مساواتهم بغيرهم من المواطنين الذين لا يضيفون شيئا إلى وطنهم: لا عملا، ولا فكرا، ولا رأيا في قضاياه المؤثرة، وإلا فإن ذلك يقود إلى الإخلال بقيمة هذه المواطنة، وإعاقتها من أن تؤدي مفعولها المضاد للفيروسات والبكتيريا التي قد تصيب المؤسسة أو الوطن بشكل عام، مما يؤثر على فاعلية المؤسسات في إنجاز أهدافها.

وحين تضعف قيم الانتماء إلى المؤسسات، فإن ذلك يعني أشياء كثيرة قد لا يتحمل الموظف مسؤوليتها لوحده، إنما يتحملها معهم  المسؤولون عن المؤسسات؛ فربما يكون سلم المفاضلة في المؤسسة مبنيًّا على الولاءات والتبعيات لا على الإنتاج والقيام بالمسؤوليات؛ وبالتالي يتحرك الموظفون داخل المؤسسة لا بمهاراتهم وقدراتهم وأعمالهم، إنما بدورهم في نفخ شعور النرجسية لدى المسؤول، الذي يوجد له جماعة مغلقة على حساب مصلحة العمل، تبدأ في تقويض أي فرص لظهور المواطنة الوظيفية، والتي تقوم على إبراز نماذج من الموظفين الذين يقومون بالابتكار والتجديد في الأفكار والمقترحات التي يمكن أن تجعل من العمل مختلفا ومتفردا، بغض النظر عن مشاركته في تقريض المسؤول بكلمات التبجيل والتقدير، أو موافقته على كل شيء حتى وإن كانا خطأ يضر بالمصلحة الوطنية.

أين أوصلت هذه الممارسات مؤسساتنا؟ لقد جعلتها ساحة للمعارك اليومية بين من يعملون ومن لا يعملون، بين من يلوذون بخيمة المسؤول، وأولئك الذين يراد طردهم من كل الخيام، بين من يرفعون القوانين بختم المسؤول، وأولئك الذين يقامون هذه "البلطجة المؤسساتية"، بين من يملكون "كودات" الأبواب الخلفية، والذين لا يملكونها؛ وبالتالي نجد أن لدينا آلة ضخمة تتكون من مؤسسات عديدة، يُفترض أن تتم صيانتها بشكل سنوي لمعرفة إن أنتجت ما يفترض أن تنتج أم لا، أما أن تترك تعمل بهذا الشكل فذلك يعد دفنًا للمواطنة الوظيفية التي ركزت عليها المجتمعات الإنسانية فحققت التقدم؛ فلا أحد يمكن أن يُسمح له أن يرفع رأسه ويتكلم -موظفا أو مسؤولا- إلا إن كان يقوم بعمل مبدع ومختلف؛ فالحلبة الوطنية هي للأفكار التقدمية لا للأفكار الرجعية الشخصية، والمؤسسات هي ساحة وطنية لا ساحة قبلية، وحين تتحول المؤسسات إلى ساحة "للتخميس" لمن تأخرت بهم المراهقة، فإننا يجب أن نتوقف عن التفكير بالمستقبل وبأي تغيير، علينا أن نتوقع أننا يمكن أن نتدهور مع كل دورة، وما على المتفرجين إلا التصفيق لهذا المشهد العبثي.

لابد من تدخل لتمكين المواطنة الوظيفية، تدخل لوضع الأشياء في أماكنها، ولإبراز نماذج التفكير والإبداع في العمل، والذي لابد أن نعمل على تحويله إلى عدوى جماعية، تقضي على عدوى اللامبالاة والمحسوبيات والشللية التي تتكون في بعض دوائر اتخاذ القرار داخل المؤسسات. مصلحة الوطن العليا يجب أن تكون أقوى من مصالح الشلل المؤسساتية، وأقوى من مصالح التحزبات الوظيفية، والمحاسبة يجب أن تكون سنوية على هذه الدوائر، ما الذي أنجزته لكي تجدد لها الثقة؟ دون سحب محاسبة أو سحبا للثقة لا نتوقع حيوية في أوصال المؤسسات، وسيظل الركود سيد الموقف، وستظل الخطط رهينة الغد، وحين يأتي الغد ترحل إلى غد لا نعرف متى سيأتي، ما أصعب انتظار غد ليس لهو موعد محدد!!

علاوة على ذلك، يُمكن لنا أن نستفيد من تجارب الدول المتقدمة التي تتقاطر إليها الوفود بمناسبة أو بدونها، دون التأمل في تجاربهم لتعزيز المواطنة الوظيفية ولكسر الغطرسة التي قد تعشش في بعض الرؤوس التي تملك القرار ونقضه، وتملك الخطة واستبدالها، وتملك الموظف وعزله، وتملك التحريف والتبديل والتسطيح؛ فالمديرون في اليابان يجبرون على مسح أحذية الموظفين الجدد لكسر أي نزعة للتكبر بداخلهم من جهة، وأيضا لزرع أهمية احترام الموظف لديهم، كما أنشأت بعض المؤسسات في اليابان غرفا سميت "غرف العقاب أو النفي" يوضع فيه أولئك الذين لا ينجزون مهامهم الحساسة؛ وبالتالي لابد من إجراء لدينا يتماشى مع هذه الإجراءات سواء للمسؤولين أو الموظفين.

لا يمكن أن نترك المواطنة الوظيفية تتدهور بهذا الشكل، هذه مؤسسات لها قيمة كبيرة لإنجاز متطلبات المواطنة وحل الإشكاليات وتحقيق الرفاه للمواطنين، ربما نحتاج إلى عدة غرف: "غرفة لعقاب أي مسؤول تخفق مؤسسته"، وغرفة "لمكافأة المسؤولين الذين يبدعون في قيادة مؤسساتهم في ظل الأوضاع المالية ولا يتحججون بقلة التدفقات".. إنه زمن التخلص من الوظائف الشكلية، ومن الذين ليس لديهم أعمال يقومون بها، ومن الذين لا يبتكرون في مؤسساتهم، ومن الذين يعملون بثقافة التأجيل، وإلا فإننا نعيش زمنا بغير متطلباته، وفي ذلك مخاطرة كبيرة جدا، ستحصدها أجيال الغد، وسيجعلونها أيضا ثقافاتهم في التعامل مع الواقع، وحين يقول لهم أحد: لمَ مستوى مواطنتكم الوظيفية متدنيا؟! سيردون: ما صنعنا هذا بأنفسنا، أُرِيد لنا ذلك، ونحن لابد أن نتماشى مع الإرادة العامة.