صناعتنا الحرفية.. إجادة وإبداع

حاتم الطائي

تكتمل بصباح اليوم خامس بشريات الأمل التي يحملها نوفمبر المجيد إلى أبناء هذا الوطن.. شهر تكتنف أيامه تفاصيل المجد والنماء، أبدع العماني فيها حبك مفردات التنمية والاستدامة، بملاحم وطنية يضطلع الجميع فيها بدوره؛ فيزدهر الحاضر، وتتشكل ملامح المستقبل، بمداد تاريخي يستقى من معين الماضي الذي لا ينضب.

وعلى ذكر الماضي بثرائه، ونوفمبر ببشرياته، والخامس من أيامه بتوقيتات الواقع، ينسحب الحديث تلقائيا إلى جهود دؤوبة ومساع حثيثة للجنة التقييم النهائي للمشاريع المتنافسة على جائزة السلطان قابوس للإجادة الحرفية (في نسختها الخامسة)، ليس فقط باعتبارها منصة تكريم، بل كمظلة دعم وضمانة صون وحفظ للتراث والهوية الوطنية، والرصيد الثقافي والإبداع الإنساني الجدير بالاعتناء، وكصناعة تواجه صراعا حقيقيا من أجل البقاء، في عصر مزدحم بالمنافسة المعولمة.

فلقد برع العماني منذ فجر التاريخ في استخدام الحرف التقليدية واليدوية المنبثقة من حاجاته، مشكلا بذلك عروة وثقى داخل نسيج الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يواصل من خلالها حرفيونا ترسيخ أدوارهم في الحفاظ على تراثنا الأصيل، بإبداع ذاتي، ومخزون ثقافي وفني كبير؛ إيمانا منهم بأن المجتمعات الحالمة لا تتطور دون احترام مهن الآباء والأجداد، متأسيين في ذلك بنطق سام لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- بأن تقدم المجتمعات "لا يقاس بالازدهار العمراني فقط، وإنّما بمدى أصالة هذا التقدم، واستيعابه لقدرات المجتمع وتقاليده".

بيد أننا اليوم، ونحن نشيد بعطاءات قطاعنا الحرفي على مدى فترات تاريخنا الوطني كان فيها بمثابة مصدر دخل رئيسي، وكذا بالدعم الحكومي المقدم له اليوم، تلح العديد من التساؤلات عن مدى مساهمته الإنمائية كرافد من روافد اقتصادنا الوطني، ومن ثم كمحفز سياحي، ومستقطب لعدد أكبر من الباحثين عن عمل؟ وإسهاماته في حفز مجال ريادة الأعمال في السوق المحلي؟ وقدرته على المنافسة أمام المنتجات التراثية القطرية الأخرى سواء في الأسواق العربية أو العالمية؟ ومستوى الإبداع الحاصل؟ وأثر التمكين الحرفي على دعم المشتغلين بالقطاع؟

إنّ الأهمية الاقتصادية للحرف التقليدية، تستدعي وقفة تمهل ومصارحة في الوقت ذاته للإجابة عن هكذا تساؤلات؛ بما يؤول في النهاية لتحقيق استفادات أكبر من قطاع يمتاز بالمرونة، والقدرة على تقديم منتجات تحمل خاتم الهوية؛ وبالتالي فإنّ معرفة التحديات والمعيقات ابتداء تمثل مسارا واضح المعالم نحو تمكين أكبر لصناعاتنا الحرفية؛ سواء التحديات الإدارية والتنظيمية، أو المالية، أو البشرية، أو المهنية، أو حتى التحديات التنافسية، ووضع تصورات منطقية ومناطقية لمستقبل القطاع، وإنشاء مراكز إعداد وتدريب وتأهيل المنتسبين والراغبين في الانتساب للقطاع، وإضفاء مزيد من المرونة على إجراءات منح تراخيص الإنشاء والتشغيل والبدء بالمشاريع الحرفية، وتوحيد جهات إصدار تراخيص مزاولة المهنة، ومنح أراض أو محلات للمنتسبين للقطاع في أماكن مميزة وسياحية لإقامة ورشهم الإنتاجية، وإقامة تجمعات سنوية للمشتغلين بالصناعات الحرفية.. وهي مطالبات لا تقلل من شأن جهود الهيئة العمانية للصناعات الحرفية التي لا تألو جهدا في تنمية وتعزيز هذا القطاع، وإعادته لمكانته الأولى، إلا أن الأمر -في رأيي- لا يزال يحتاج مزيدا من التكاملية، وانصهار الجهود بعضها في بعض؛ من أجل إيجاد استراتيجية وطنية للقطاع تستهدف تحويله إلى مشروع اقتصادي يثمر إنتاجا منظما، يسهم في رفع مستويات ومعدلات الدخل، وخلق فرص عمل تستوعب ارتفاعا متناميا في أعداد القوى العاملة الوطنية الباحثة عن عمل.

ويبقى القول في الأخير.. إن أية فائدة ترجى من قطاع الصناعات الحيوية حاضرا ومستقبلا، لن تتأتى دون تضافر حقيقي للجهود، تتغير معه النظرة السائدة عن للقطاع بكونه قطاعا هامشيا أو متحفيا ليس أكثر، وإيجاد حلول نافذة لإشكالية التمويل والاقتراض، وإنشاء كيان تنظيمي يكون من أدواره تذليل العقبات الإنتاجية والتشغيلية والتسويقية والاجتماعية التي تواجه رواد هذه المهن، وتوفير منافذ تسويقية في الولايات والمحافظات المختلفة؛ إذا ما كانت الآمال فعلا معقودة على ولوج سلس لقطاعنا الحرفي إلى بوابة مستقبل وطني عنوانه "التنويع الاقتصادي أولا".

وعلى هذا الأساس، تبقى "جائزة السلطان قابوس للإجادة الحرفية" هو الموجه المسترشد به لإنجاح كافة الجهود الداعمة للحرفيين، وتنفيذ الخطط الطموحة الرامية لتطوير القطاع تحت مظلة أهداف تنموية كبرى لتنويع الدخل، لا سيما وأنّ كل قرية وولاية ومنطقة في وطننا الحبيب تزخر بالعديد من الفنون والإبداعات الحرفية التي تستحق الدعم والرعاية والاهتمام.