الطقس الصوفيّ والملحميّ في تجربة "عُلَّيَّة الإدريسيّ" (4-4)

...
...
...

الشريف أيت البشير – المغرب


لعله من خلال هذا الجرد يتحقق ركوب المنجز الشعري لدى عُلَيّة الإدريسي كل إمكانية تعبيرية في مستواها التخييلي ودرجة خرقها وجنونها؛فهناك التعبير السوريالي الذي يقطع مع أية إمكانية لتحقيق المصالحة مع المنطق ،إذ يصعب إعادة الجبر للجملة،أرادت علية أن تجعل جرحها غائرا ومتسعا لمزيد من النزيف،ولمزيد من الصراخ والإحتجاج...فما الذي يمكن أن يستحصله المتلقي من صيغة:(الشجرة تلفّ شعرها بمنديل جدتي الأبيض)؟
فقط يكون لها مسوّغ دلالي بإحالتها على (أمّ النّذور) لعبد الرحمان منيف، فتصبح الشجرة هنا بمعنى المكان الذي يتمّ فيه تعليق أعطاب الروح والزمن وكل الكبوات التي اعتصرت الاخفاقات المتكررة والتاريخية للذات العربية...أو صيغة:(حوذي نسي ظلي على ميكروفون)؛ ففي العبارة إسناد صفات وأفعال لفواعل ليست من اختصاصها، كما أنه يتم تجسيد المجرد الذي يصعب نقله وتحويله إلى تلك الحالة. ثم الجمع بين الحوذي ذي الوظيفة التقليدية المرتبط بالانقياد إلى الميكروفون الذي يقود هو الآخر الصوت نحو التجلي والجهر ومزيد من الانشداد لرقبة استطالت أكثر نحو ذرى الصوت تناثر في الأفق.
بل إن الشاعرة تعمل على تضعيف جنون العبارة وسورياليتها في الأخير، كأن الأمر يتعلق باشتداد الألم، ثم ألا يكون الإبداع، مرتبطا بهذه الحالة، تعبيرا عن المخاض حينا، وأخرى رديفا للإيروس؟
ذلك أنه حين ينزّ القلم مدادا أو الروح شهقة أوغصّة أو أملا يكون معادلها متمثلا في "دموع إيروس" المترجم للألم والنشوة في الآن نفسه. فالأورغازم يحمل هذه الثنائية الحادّة في ضديّتها المتصلة بالحياة وبالموت. قد تكون هذه الفلسفة هي المتحكمة، لا وعيا، في العبارة، الشيء الذي جعلها تنتهي لتمتدّ كذلك في الإحساس اكتنف المتلقي في وجود مفعم بالجرح وبالموت، وفي الآن نفسه بالمطر، حيث لاتبقى القامات وإنما آثارها مترجمة هنا في لفظ الرائحة:
رائحتي
تمثال من خريف...
رائحتي
تنقر
شجرة الشمس
تلك التي تتقدم الريح
بجرح نافر
وموتي يأخذه المطر(...).
كما أنه ومن خلال المنتخبات التي جردناها من متن الديوان/القصيدة يتضح بأن الأنا الشاعرة تحتل البؤرة - كما سبق أن قلنا - والتي عبرها تتعالق عناصر أخرى وتنتسج قي سماواتها التعبيرية، الشيء الذي يمكن اختزاله في مجموعة من الثنائيات، نذكر منها:

•    الأنا والغياب: يتم صبّ هذا الأخير في دلالات متناسلة تمتح من قاموس العزلة والكآبة والفراغ، لعل أبرزها هو فتح الذات على الإمكانات الزمنية للخريف.
•    الأنا والآخر: يحضر هذا الأخير بغموض شديد؛ فقد يكون طفلا، كما قد يكون لاأحدا، أو الجد والجدة، الحوذي، الساموراي...بهم تنتسج اللغة الشعرية الموصولة بالروح.
•    الأنا والحضارة: تتمثل هذه الأخيرة في تجلياتها المرتبطة بالمدينة، الحقيبة، الطريق، الرباط...والتي تعمل على تفضية الذات وتأطيرها في مكان لايحققها وإنما يشعرها بالهباء.
•    الأنا والطبيعة: حيث عبرها يتم التأكيد على الحس الرومانسي الجارف في إطار ذوبان الذات في عناصر الطبيعة من غابة، شجرة، البلوط، الصفصاف، الأوراق، الورد، العصفور، الهواء الريح، وذلك في حالة" الأنسنة والطّبعنة" كنوسطالجيا حلمية.
وعليه فإن طبيعة هذه الثنائيات ذات تعبيرية شعرية أكيدة في إطار الاستعارة متناولة الذات عن طريق التعبير المزدوج؛ مرة تكون متصلة بالبنيات المذكورة والمؤطّرة في الغياب وفي الآخر وفي الحضارة وفي الطبيعة... وأخرى بواسطة هذه البنيات ذاتها للتعبير عن الذات. الشيء الذي  يؤكد على التواشج والاندغام والتداخل بين عناصر القصيدة. وهو أمر ليس غريبا مادام يتعلق بتقديم الشاعرة للّوحة/القصيدة ترسمها كما تكتبها كسيمفونية بكامل البهاء المؤكد للحضور وللغياب في الآن نفسه لكونهما معا يضيئان بعضهما ويكشفانه، في الوقت الذي تنأى فيه القصيدة عن" المونوفونية "التي من شأنها أن تنتج العتمة والإلغاز وإلباس القول ذاك الغموض غير المنتج...
فتعدد المدلول هنا في تجربة علية الإدريسي من شأنه أن يحتفي بالنسق في الكتابة وبالتصادي؛ أي بالكتابة التنويع والكتابة المعادة مرة أخرى إلى ما لانهاية...من شأن ذلك أن يمتّع (هواء...طويل الأجنحة) بخاصّية البوليسيمية تجعل منه يدخل الكتابة الحداثية من بابها الواسع، في تمجيدها للبّاطوس وللعقل والحرية ولباطن النفس والوعي بها حتى تخلق الألق من الحزن والكآبة والنسيان والعزلة والقلق :طيمات تكون حابلة بالوعد ومبشّرة بالجميل الآتي هو ذهاب التجربة الشعرية إلى المستقبل...فما تنحته الشاعرة لا يبلى ولا يحمل بذور الموت في أراضيه،إنما على العكس تشعّ منه الحياة وتينع فسحاته وفجواته بين التعبيرين:المنطقي المنطمسة معالمه والمغتالة في العبارة الشعرية. والشعري/الباطوس المضمّخ بكامل أبهاء الاستعارة والرمز حيث معالمه تلوح بين تلافيف العبارة وثناياها في معانقة الزمن الآتي...والمحتفى به حيث تلوح وداعة الشاعرة بمثابة الأم الحنون على مولودها هو هنا معادل، رمزيا ،لقصيدة (هواء... طويل الأجنحة).
قد تكون قصيدة علية الإدريسي محتمية بالنّفس الملحمي في مديحها الفجائعي عن طريق استصدارخطاب يمهّرالحزن ويقطّر الأسى على الذي فات، لعله الزمن باعتباره منفلتا تلك صفته التبس بالعمر فكانت ثناياه وتجاويفه تخون خيانة فروج الأصابع للماء.عبثا يمكن إيقاف الشلال.عبثا يتوقّف الزمن ويمهل الذات المكوث في لحظتها المفعمة حياة...كل صائر إلى زوال وإلى تفلّت...الشاعرة هنا بلغتها تترجم الجرح الغائر ،تقول:(فاتني أن أكون الشجرة)،قول مكرور على مساحة الديوان/القصيدة، فيه تأكيد على هذا الأسى،وهذا الإحساس الفجائعي بالخواء والموت،ما دامت دلالة الامتداد هنا مصادرة وما دامت الذات أيضا لا تتلبّس سمات الشجرة. وهما كذلك متناغمتين في التفكير الأنتروبولوجي، فيا من علاقة مشتركة بينهما حتّى عدّت المرأة بمثابة المعادل الرمزي للشجرة؛ قياسا إلى خاصية الثمار كامتداد في الوجود وكأثر هو أبقى في الآتي يعلن بأن الحياة موصولة بما مضى، وهي أيضا كالتذاذ ينشدّ إلى إيروتيكية غامضة لا تفسّر، قياسا إلى استصداء الأشكال وكونها ذاكرة لأخرى كما هو الحال بالنسبة لهندسة الرّمّان والتفاح في محاكاته للنهد واستدارة الخصر وعتباته...هي كلها شهوات تأتيها اللذة من أمام...
إن المجد كله للأنثى، كان في حيازتها أصلان اثنان: المعرفة والكون؛ فهي الحكمة والحقيقة، ثم هي التجلّي والوجود...وكذلك كان المجد للشجرة محتفى بها" ميثيا"باعتبارها عنصرا أساسيا في "جغرافية الملذات" في الجنة. إن الشجرة مصدر حقيقي لتفجير الإستيهام ركنت إلى كمونها المحدد في عالم الالتذاذ حينا، وأخرى في الإمداد بالحياة فقد أمرت مريم بأن ترجّ الشجرة حتى تسّاقط الرّطب. وثالثة بمصادرة مؤقتتة للظلمة باستعمال الزيت في الفوانيس؛ فهي الشجرة المباركة...ورابعها بقياسها إلى الشموخ والكبرياء تلفّعته الرجولة، فكان وحده الرجل، بكل دلالة الامتلاء، من يموت واقفا كالأشجار تماما حسب توصيف عبد الرحمان منيف في رائعته (الأشجار واغتيال مرزوق).
لا تكتفي علية الإدريسي بتخزين كل هذه الدلالات في قياس قامتها على الشجرة بالنظر إلى طيمة الغياب المقرون بالأسى، وإنما تعمل على تمجيدها في خاصية شجر البلوط. مضيفة بذلك دلالة أخرى ترتبط بما هو أنثوي لعله الغموض أو الإخفاء ؛فجمال البلوط ولذة مذاقه تكون في جوفه، إنها لذة كامنة في العمق.تماما كما جمال المرأة هو ما ظل كامنا واستمر مشعّا، وليس ذاك الذي يخطف الأبصار. إنها الأنثوية الكامنة والأنثوية السر.وللوصول إلى ذلك لا بد من التقشير،لا بد من تجاوز الظاهر والتغلغل في العمق، "في ما تحت القشرة". وبقدر ما تنتصر هذه الدعوة للنزعة الهيدونية، بقدر ما تنتصر لنزعة صوفية تتعالى على الحس وتبقى مؤطّرة له في حالة من الانخطاف، في حالة من اللانهائي، إنها لذة "سيمورغية "منذورة لطيران لا يحد، ولتشابه أيضا يعدّ مطلقا يلغي الفواصل والفروق ويعلنها وحدة وتطابقا بين الذت والموضوع.
ما من شك في أن عملية التقشير تنجرّ إلى الإغواء الجارف؛ فالأنثى تملك تلك السلطة المدوّخة للرجل، لامسها العراقي عبد الوهاب البياتي في جملته الشهيرة باقتدار جمالي: (زهرة الدفلى تتعرى في حياء). هذا الحياء يوجد في عملية التقشير البطيء. الشيء الذي يعني بأن علية الإدريسي قد تغلغلت في عمق النفس وترجمت صبواتها ولو من باب الإعلان عن الحداد، ثمّ ألايحوز الإيروس هذا التناقض الحاصل في الحياة والموت في تبدل وتناوب مستمرين. هو كذلك ما دام الوجود لايمنح للذات على مقاسها. وإذا كان ذلك كذلك فتلك هي الكتابة المنذورة للآتي والممهّرة بالأنثوية ،وهو ما يتغياه المتلقي المغربي للشعر،هي كتابة ليست مبنية على الكولاج في إطار استحضار أنثوىة فجّة ومجانية، وإنما هي تجربة في الكتابة تفجّر الهوية المخصوصة من الداخل. أفلحت علية الإدريسي في ذلك والتحقت بثلّة من الشواعر اقتدرن احتفار أسمائهن عن طريق كتابة الوجود ووجعه من الداخل كما مع التجربة الرائعة لفاتحة مرشيد وكذلك إكرام عبدي...باقتدار كبير،على سبيل التمثيل فقط لا الحصر.في الوقت الذي بدت تجارب شعرية أخرى في الريبيرتوار المغربي على الأقل شواعره مجرد ديكور في تأثيث عوالم إنسانية أصبحت منذورة للشيئية في عالم طحنته التقنية وأسلمته إلى حالة مرضية هي الإستهلاك والنفعية...
لهذا التأويل أساسه أثناء ركوب التحليل النصي في التجربة الشعرية لعلية الإدريسي،حين تمجّد الشجرة في البلوط حينا ،وأخرى في الصفصاف لما يحوزانه من دلالة السرمدية والانفتاح على اللايحد في إطار الانفلات من الدورة الزمنية ومن الذهاب إلى القدسي؛إذ معروف عن شجر البلوط خضرته على مدار السنة،فلا خريف له،فقط ثمار البلوط تماما كما زهرة دفلى البياتي،حيث التساقط البطيء يوازي هنا عملية التقشير التي يستحيل أن تتمّ دفعة واحدة لكون ثمرة البلوط تبدي عنادا وكأنها تخفي سرا.تكون النكهة أثناء الكشف والجس/اللمس لعله الهصر،والتذوق لتلوذ النفس إلى الصمت وإلى الموت ...في حالة محاكاتية غامضة لدموع إيروس.اما الصفصاف فيرمز للشموخ حين يضرب في عنان السماء،وكذا القدسي شأن شجر السرو ؛فكثير من البدو يعتقدون في أرواح منذورة لله في شجر الصفصاف.وحينما كان المنطلق من الذات ومن عوالمها النفسية ورؤيتها للعالم،عملت علية الإدريسي على نقل معادلها المتمثل في الشجرة من مرجعيته الموضوعية إلى ما هو رمزي،لتغدو بالنتيجة ثمار البلوط معادلا رمزيا للمنتوج الشعري وللإبداع.فعلية الإدريسي ظلت بمثابة الشجرة التي تينع وثمارها هي شعريتها التي تتطلب تقشيرها لمعرفة كنهها،أي تأويلها من خلال اعتبار كل دليل هو دال جديد لمدلول آخر وهكذا إلى ما لا نهاية في نزعة بارثية أكيدة من خلال تصوره لمفهوم النص الحداثي الحائز البوليسيمية وقوة الانفتاح على التجارب التلقياتية المفترضة...وكأن الكتابة الشعرية هنا هي بمثابة الفعل الجنسي الرمزي فقط.فكانت بالنتيجة هذه التجربة بقامات الصفصاف لها علوّها التصويري ،ولها اقتدارها الإبداعي مسكونة روحه بشفوف اللغة وهدب المتخيل لدى علية الإدريسي،فروحها وحدها من تحرسها من كل عين "لامّة".       
هل في هذه التجربة الشعرية استعادة طقسية لكتابة القصيدة ملحميا وصوفيا؟
لقد كتب محمود درويش قصيدته الشهيرة (مديح الظل العالي) ذات النفس الطويل، حيث دفقته الشعورية تتفاعل مع تاريخ المرحلة ومع المنعطف الذي استحدثته إسرائيل على خلفية الهجوم على بيروت سنة 1982، فأصدرها في ديوان مستقل. وكنا آنذاك أمام تجربة أخرى على شكل دفقة تجعل الشعري مجاورا للتشكيلي مع تجربة محمد بنيس وضياء العزاوي في (كتاب الحب) متمثلين معا "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي. حيث القصيدة تكتب بنفس واحد بغض النظرعن العناوين الفرعية، وبشكل مذهل يستجيب لهذه الحالة: (مسكن لدكنة الصباح)، يعيد كتابة النبض الإنساني، على مستوى العشق، في اللانهائي...ثم تجربة أخرى صادرة هذه المرة من الشرق المغربي بتوصيف (كتاب الخرق)لصاحبها مصطفى ادزيري عن مطابع الأنوار المغربية - وجدة سنة 2010، محاولة في استعادة طقسية الكتابة الصوفية على مقاس نظيرتها لعبد الجبار النفري صاحب المواقف، حيث هنا تبنى كذلك الكتابة وفق المنطق الثلاثي لـ(كان وكنت ثم أصبحت). وهي كتابة تراهن على منطق التحول في إطار التنويعات التي تصب في نفس الدماء الشعرية المتاخمة للانهائي والمنذورة لقوة الاحتمال والانفتاح على اللامتوقّع.والآن بعد مسافة زمنية فاصلة تنيف عن أربع سنين،فإننا نجد هذه التجربة الشعرية المشذّرة والمكتوبة وفق مقاطع مرقّمة وصل عددها إلى 216شذرة،ومحاكية لشعر الهايكو،كانت تحمل بذور كتابة القصة القصيرة جدا.الشيء الذي يشكّك في صدقية الوقوف على فواصل الكتابة وأنواعها، وينتصر لإقرار نصّية الإبداع فقط المسكون بالتعدد والأهواء والهويات المتكاثرة والمختلفة...تنضاف إلى هذه اللائحة تجربة علية الإدريسي في (هواء...طويل الأجنحة)، باعتبارها القصيدة/الديوان بنفس التوصيف ذاته، حيث إمكانيات التشذير جد مذهلة ظلت مخزّنة بطاقة رمزية هائلة خطفت الأذواق وذهبت بها في اتجاه اللانهائي، أي في اتجاه ذرى الصفصاف وهو يشرئبّ نحو اللانهائي وفي اتجاه الجبل افترشت مساحته الأشجار حيث غابة البلوط تدهش وتوطّن الاعتقاد بأنها السيمورغ وبأن كل الأشجار هي..

تعليق عبر الفيس بوك