إنسانية تعلو.. وأخرى تسقط!

د. صالح الفهدي

كشفت الفحوصات عن إصابتها بالداء الخبيث؛ السرطان. انهارت، اضطربت مشاعرها، فقدت التركيز، أبلغت زوجها في اليوم ذاته أنها تريد الذهاب لبيت أهلها، إذ لا يبحث الإنسان في لحظة شعوره بالوهن إلا عن قلب دافئ يتلقاه، ونفس قريبة إليه تسرّي عنه همّه، وتعلي من همته وتهوّن عليه ألمه.. اصطحبها الزوج إلى بيت أهلها، تركها ومضى، ثم أعقبها بعد دقائق باتصال هاتفي، قال لها فيه: أنت طالق..! والسبب؟! لأنك مصابة بالسرطان!

هكذا دون مقدمات ينفلت الوثاق الأعظم، وتسقط الإنسانية في الحضيض..!! كانت الإنسانة الرائعة التي تطوعت لخدمة مرضى السرطان تروي لي القصة، وأنا أشعر بالغصة..! تشرق عيناي بدمعات مترقرقات وأنا أتمثل حال تلك المكلومة، الحزينة التي بنى لها شريكها قبل فترة عرشا من ذهب، فلما أصيبت بداء ليس لها فيه إرادة، أسقطها وكأنها كومة خردة في مردم نفايات وهي العزيزة المكرمة!

تزامن سماعي لهذه القصة مع كتاب أرسلته لي أخت جزائرية بعنوان "خبايا إيمانية في خلاياي السرطانية" تحكي فيه معاناتها النفسية مع مرض السرطان، الذي شفيت منه بفضل الله، وتطلب مني أن أواسي به من أصيب بهذا الداء الخبيث.. وقد ذكرت فيه بعضا من مشاهداتها وتجاربها منها ما يتوافق مع القصة المؤلمة، كتبت المؤلفة زهيرة أبودهان تقول: "في إحدى الجلسات كانت برفقتي فتاتان وكلتاهما مخطوبة، غير أن إحداهما تركها خاطبها، والأخرى بقي متشبثا بها، سقط قناع الخاطب الأول عندما عرف بمرض خطيبته، وسرعان ما فسخ الخطوبة وتركها تعاني مع ألم المرض ألم الخذلان، وسقط قناع الخاطب الثاني ليكشف عن رجل شهم أصر على الوقوف بجانب خطيبته إلى آخر لحظة حتى لو كان السرطان قاتلها. الغريب في الأمر أيها القراء أن التي تركها خاطبها كان نوع سرطانها بسيطا ونسبة الشفاء منه تقارب المئة، وأما التي بقي خاطبها بجانبها وساندها كان نوع سرطانها خطيرا ونسبة الشفاء منه تكاد تنعدم، فماذا حدث بعد ذلك؟ إن الحالة النفسية الجيدة تُسهم بشكل كبير في تفاعل الجسم مع الكيماوي وتقبله له وسرعة ذوبان الخلايا السرطانية، فبسبب سوء الحالة النفسية للفتاة الأولى بعد أن تركها خاطبها تفاعل الجسم سلبا مع العلاج وتضاءلت نسبة الشفاء بعد أن كانت كبيرة، وحدث العكس بالنسبة للفتاة الثانية، إذ كانت حالتها النفسية ممتازة بعد موقف خاطبها الإيجابي ولاحظ الأطباء تطورا جيدا في حالتها الصحية".

لا يكشف قيمة الإنسانية إلا المواقف، ولا تُظهر أصالتها إلا التضحيات، فالكلمات المعسولة، والعبارات المزخرفة لا تعني أن وراءها إنسانا صاحب مروءة وشهامة، بل قد تكشف عن ذئب بشري لا يعرف من الإنسان إلا لحمه وحسب..! أما معانيه الروحية السامية فلا يدركها بحكم شبقه، وشهوانيته، وبهيميته..! يقول الأديب الإنجليزي جورج برنادشو: "كانت الإنسانية لتكون سعيدة منذ زمن لو أن الرجال استخدموا عبقريتهم في عدم ارتكاب الحماقات، بدلا من أن يشتغلوا بإصلاح حماقات ارتكبوها"..!

تقول إحدى الموظفات: لقد مضى لي في هذا المصرف البنكي عدة أعوام، لكن أول معاملة هي الأقوى أثرا، والأقسى تذكرا في نفسي، لم أستطع نسيانها أو تجاوزها مع مرور الزمن، وتدور القصة حول حسن ظن زوجة منحت توكيلا مطلقا لزوجها، ليصر على اصطحابها وأطفالها إلى بيت أهلها ثم يفتح زجاج نافذة سيارتها ليلقي عليها كلمة الطلاق.. ثم يغور لينقل في اليوم التالي زوجته الجديدة إلى البيت الذي كان باسمها فأصبح باسم "بديلتها"، وليعود بكل وقاحة بعد أيام ليسلب منها سيارتها لأنه قام بنقلها أيضا إلى ملكيته بفضل "التوكيل المطلق"..!! وما هذه القصة إلا نموذج من قصص الغدر والاحتيال الكثيرة التي تسقط مفهوم الإنسانية عن أصحابها..!

فهل بقيت من إنسانية يتلفع بها هؤلاء البشر؟! هل بقي من مروءة أو شهامة يدارون بها رجولتهم، التي حصروها في الفحولة، وهي الخسة، والانحطاط، والدناءة..! إنسان يغدر لا قيمة له في عرف الإنسانية، وإنسان يخون لا معنى له في مراتب الكرامة.

وفي المقابل، فإن القاعدة الأعم، والشريحة الأغلب هي أولئك الإنسانيون في قيمهم، وصفاتهم، وطبائعهم، أولئك الذين أعلوا شأن الإنسان في قلوبهم فتوسموا قول المصطفى الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"..! فمن اتبع سنته اقتدى به لا في هيئة ظاهرة كما يظن، بل في منهج حياته مع أهله، وأصحابه، والناس أجمعين..!

الإنسانيون هم الذين يرتقون إلى مصاف الإنسانية، فيعرفون معنى الوفاء، والحب، والرحمة، والتسامح، والعفو، وكل قيمة عليا تضيف للإنسانية ذكرا زكيا، ومعنى نقيا. الإنسانيون هم الذين يتحلون بالتضحية والشجاعة التي يصفها أرسطو بأنها "أهم الصفات الإنسانية لأنها الصفة التي تضمن باقي الصفات". بهؤلاء وحدهم يكون للحياة معنى آسر، وللجمال قيمة فاتنة، وللفضل وجه صبيح.

إننا نسمع القصص المؤلمة التي تصدر عن بشر، ورغم ذلك نسأل: هل هؤلاء بشر؟! نسأل لأننا نربأ بالإنسان الذي أكرمه الله وأسجد له ملائكته أن يسقط نفسه في حضيض الشهوات، ومستنقع الدناءات؛ فيخون، ويغدر، ويحتال غير عابئ بمشاعر الآخر الذي يكتوي طول عمره بالألم، ويتحرق بجمر الأسى والأنين لمشاعر صادقة أهدرها، وعمر أضاعه مع إنسان كشفت الأيام قناعه، وأبانت المواقف بشاعة وجهه، وخساسة نواياه..!!

إننا بشر بقدر ما نكون إنسانيون، ولن نكون كذلك إلا بأن نعلي القيم الإنسانية العليا من رحمة، ومودة، ووفاء، وشهامة، ومروءة، وتسامح، ولطف، وعطف وكل قيمة تعلي من قيمتنا الإنسانية. لن نكون بشرا إن كنا نثرثر عن الجمال والذوق والرقي والكلمات الشاعرية الرقيقة ونحن أبعد الناس عنها..! يقول الروائي غابريل غارسيا ماركيز: "حافظ بقربك على من تحب، اهمس في أذنهم أنك في حاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات، مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكرا، وكل كلمات الحب التي تعرفها".

ما الذي يتبقى في الإنسان إن هو فقد معاني الإنسانية في نفسه، فخان عهده مع الله، ونكث في وعده مع الناس، وأخرس ضميره عن التثريب، وأصم أذنيه عن التأنيب.. هل بقي سوى طينة مهينة انحدرت في مساقط النذالة، ومهاوي الرذالة، ومهابط السفالة؟!