متى تعود العقول الخليجية المهاجرة والكفاءات الوطنيّة المتسربة؟

د. أسامة محمد عبد المجيد إبراهيم
مستشار مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله للموهبة والإبداع


تُعد الموارد البشرية أحد أهم عناصر التنمية. وتؤكد مؤشرات التنمية أن الاستثمار البشري أمر في غاية الأهمية، ليس فقط من الناحية الإنسانية، بل أيضاً من الناحية الاقتصادية. وقد أدركت الدول الساعية إلى تحقيق التفوق والتميز في الأسواق العالمية أن العنصر الحاسم في هذه الأمور هو الأفراد الموهوبون والمبدعون والأكفاء من أبنائها، وأنه مهما توافرت إمكانيات العمل والإنتاج المادية يظل هؤلاء الأفراد هم الأكثر أهمية في التنمية.
وتعد "هجرة العقول" أو ما يطلق عليه أحيانا "نزيف العقول" أو الأدمغة Brain Drain  أو ما يسمى أيضاً النقل المعاكس للتكنولوجيا والتي تطلق على هجرة الأيدي العاملة المدربة من حملة الشهادات العليا في المجالات العلمية، أحد التحديات التي تواجه تلك الدول النامية في تحقيق خطط التنمية بها. وفي الوقت الذي يجتذب في الكيان الصهيوني العقول المفكرة والعلماء الأوروبيين والأمريكيين والروس ويوطنهم في الأرض المحتلة، تشهد الدول العربية نزيفا حادا للعقول حيث تشير التقارير إلى أن الدول العربية هي أكثر المناطق الطاردة للعقول، فوفقا لبحث صدر عام 2011 م ، يهاجر حوالي 50% من الأطباء، و 23% من المهندسين و 15% من العلماء في البلدان العربية، إلى دول أوروبا وأمريكا الشمالية. هذا بالإضافة إلى أن حوالي 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم. وتشير دراسة مصرية حديثة عن أحد قطاعات نزيف العقول في مجال الفضاء فقط إن هناك "نزيفا مستمرا في الكفاءات تتعرض له“ هيئة الاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء” التابعة لوزارة البحث العلمي المصرية. ووفقا لما نشرته صحيفة الشروق 14 أكتوبر 2014، إن النزيف في هذا القطاع بدأ بهروب مهندسي برنامج الفضاء المصري إلى الخارج، في عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك.
حتى الدول الخليجية الثرية لم تكن بمنأى عن هذا التحدي. وإذا كان العقول تهاجر من دول عربية تعاني من اضطرابات سياسية أو ظروف اقتصادية ومادية صعبة، فإن أسباب هجرة العقول الخليجية قد يعود إلى أسباب أخرى تتعلق بعدم قدرة سوق العمل والمؤسّسات العلمية والبحثية بدول الخليج على استيعاب هذه الكفاءات وعجزها عن توفير الجوّ العلمي الملائم لها، والاستفادة من قدراتها العلمية والبحثية، وربما بسبب وجود بعض التعقيدات الإدارية والبيروقراطية التي تربك أصحاب الخبرات والعقول المبدعة التي ترغب في أفاق أوسع من الحرية الأكاديمية. وقد يعاني البعض من عدم وجود تخصصات أو وظائف تناسب مؤهلاتهم التي تدربوا عليها، إضافة إلى افتقاد بعضهم إلى التقدير المناسب.
وهناك أسباب أخرى مختلفة تتعلق بسفر بعض الطلاب إلى الخارج ، إما لأنهم موهوبون أو لأنهم من عائلات ميسورة، ونظرا لغياب وجود برامج محددة للتواصل معهم أثناء فترة إقامتهم الطويلة يندفع بعضهم إلى التكيف مع أسلوب الحياة الأجنبية بالدول التي درسوا فيها، ويصبح من الصعب عليهم العودة. وتزداد المشكلة عندما يتزوج هؤلاء الشباب بأجنبيات من تلك الدول وإنجابهم للأولاد ومن ثم يصعب العودة بهم، لأن الأم لا ترغب في ذلك، أو بسبب الصراع الثقافي الذي ينتهي غالبا لصالح الثقافة الأقوى. وقد توجد بعض التشريعات في الدول العربية التي تضع أمامهم العراقيل في حالة رغبتهم العودة إلى الوطن (على  سبيل المثال، عدم تعيين المواطنين مزدوجي الجنسية أو المتزوجين بأجنبيات في مناصب عُليا أحيانا).
وعلى أيه حال ليست هجرة العقول Brain drain شر محض فهناك اليوم مؤشرين إضافيين مرتبطين بموضوع هجرة العقول هما: اكتساب العقول Brain gain (قدرة الدول على اجتذاب العقول إليها)، وتدوير العقول Brain circulation وتعني قدرة الدول على استرجاع العقول المهاجرة. فالهجرة في الأساس يمكن أن تساعد على تطوير قدرات المهاجرين، ويظل التحدي في استعادة هذه العقول.
وبالنظر إلى تجارب بعض الدول الآسيوية (مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونج كونج)، يمكن القول إنه يجب على دول العربية إجراء مسح شامل لأعداد الكفاءات الوطنية المهاجرة والتعرف على أعدادهم وتخصصاتهم وخططهم المستقبلية واحتياجاتهم، ووضع خطط واضحة لإعادة واستيعاب العقول المهاجرة من أبناء الوطن. وقد يتطلب الأمر إقامة مؤتمر للعلماء المغتربين لمناقشة أساليب مشاركتهم في تنمية الوطن. وينبغي وضع بعض الحوافز مثل الأجور المجزية للكفاءات العلمية. كما يجب أيضاً تجهيز معامل متطورة تضارع المستوى العالمي للجامعات والمراكز البحثية في الدول المتقدمة مما يساعد تلك الكفاءات المهاجرة إلى العودة. كما يجب وضع برامج للتواصل المستمر مع الطلبة الدارسين في الخارج أثناء دراستهم للتعرف على احتياجاتهم وتطلعاتهم، ووضع الخطط لاستيعاب تلك الكفاءات، وتعديل بعض التشريعات التي قد تعيق رجوع تلك الكفاءات إلى الوطن.

تعليق عبر الفيس بوك