لا تحرموا أطفالكم من سماع الموسيقى (1 - 2)

 

عزيزة الطائي

الموسيقى جزء من حياة الإنسان التي تتشكل معها على مدار سنواته العمرية ثقافته وذائقته، كما تتكون على نغماتها حضارة الشّعوب وفنونها. ويلخّص الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche تأثير الموسيقى على حياتنا ونمو شخصياتنا بقوله: "لولا الموسيقى لكانت الحياة ضربًا من العبث". فكيف إنْ كانت الموسيقى أحب فن في ذائقة الطّفل؟! وهي في ذات الوقت تعبير حيّ عن ذاته وهويته.

والموسيقى كفن تتميز بقدرتها على التّأثير في أدق انفعالات الإنسان والتّعبير عن أحاسيسه وعواطفه وملازمته في أغلب لحظات وجوده. كما أنّ للموسيقى قدرة غنيّة، وتأثير تربويّ خاصة عند نماء شخصية الطّفل فتصقل ذائقته، وتهذب وجدانه، وتوازن انفعالاته.

ولغة الموسيقى هي المعين الخصب، والمنهل العذب في عالم الطّفولة، الذي يستقي منه الطّفل نموه العاطفي والوجداني منذ تلك اللمسات الحانية، وهو في ظلمات ثلاث يتخلق في بطن أمه منصتًا لدقات قلبها، متجاوبًا مع إيماءات أعضائها، متنفسًا مسام جلدها؛ وفي مهده حين تناغيه بجميل الهدهدات وأعذب الإيقاعات يغفو على دفء ترانيمها مستكينا بين تراتيل حضنها بأمان وسلام.

وإذا سلمنا بأنّ الموسيقى كاللغة ما هي إلّا أصوات يتأثر بها الطّفل بحكم طبيعته وحساسيته المفرطة نحو استقبال الأصوات، وإنْ كان هناك تفاوتًا بين طفل وآخر عند تلقي تلك الأصوات وتذوقها. حيث تشير معظم الدّراسات التّربوية إلى تأثير الموسيقى في النّمو الانفعالي والنّفسي والذّهني والفكري في حياة الطفل. فاللغة والموسيقى مادتان صوتيتان، يرتبط كل منهما بالآخر، ويلتقيان في فن مشترك، وهو الغناء الذي تتحول فيه اللغة إلى إيقاع، كما تتحول فيه الموسيقى إلى لغة. والأطفال أكثر من غيرهم إحساسًا بالأساس المشترك الذي يجمع بين اللغة والموسيقى. فعلاقة الطّفل باللغة من حيث هي رموز وأفكار ومعانٍ، أقل بكثير من علاقته بها من حيث هي أصوات وتراكيب وإيقاعات. لذلك نلحظ توظيف الطّفل للغة بحرية وطلاقة عند الإنشاد، ولا يهتم بالقواعد والضّوابط، وبهذا تقترب لغة الطفل من الموسيقى التي تشدّه إليها.

وما من أحد يختلف على هذا الأثر البالغ الذي يربط بين الموسيقى واللغة. فالمادة التي تتشكل منها اللغة هي نفسها التي تتشكل منها الموسيقى، وهي الصوت. إلّا أنّ الفرق بين الصّوتين كما يرى الباحثون في علم الأصوات واللسانيات، أنّ أصوات اللغة ذات دلالات اصطلاحية سياقية؛ لأنّ وظيفتها تحقيق التّواصل والتّفاهم الشّفهي والكتابي. أمّا أصوات الموسيقى فهي إيقاعيّة متغيرة يعزفها الموسيقي بالطّريقة المراد التّعبير عن حالتها وأثرها على السّامع لتدخل الوجدان. وهذا ما يقودنا إلى الفارق بين صوت اللغة وصوت الموسيقى؛ فصوت الموسيقى ليس أداة كصوت اللغة، وإنّما هو إيقاع لحالة من الفن والإبداع هدفه الإمتاع وإثارة الانفعالات كالحزن أو الفرح أو الهدوء أو الحماس.

وهناك عنصر مشترك بين اللغة والموسيقى هو الطّابع القومي الذي تتميز به الموسيقى في كل أمة عن الأخرى، وآخر وطني يرتبط باللهجات، فلكل بلد عربي لهجة خاصة في الغناء. رغم أنّ اللغة واحدة والموسيقى العربية نغماتها واحدة، إلّا أنّ إيقاعتها تأتي متباينة عند تمازجها مع صوت الكلمة. كما يساعد استماع الطّفل للأهازيج والموسيقى الشّعبيّة على تحديد هويته وترسيخ انتمائه ببيئته وثقافته، وهكذا فالطفل - وإن تعرض لثقافات أخرى – ستكون لديه ذائقة موسيقيّة تُمكّنه من الأخذ من الثّقافات الأخرى والتّأثير فيها إيجابيًا.

وللحديث بقية في الجزء الثاني من هذا المقال.