سؤال في التفسير:

وقفة لغوية وبلاغية مع آية قرآنية (9)

أ.د/ سعيد جاسم الزبيديّ – جامعة نزوى

 

يبدو أن تلميذي النجيب اختط لنفسه ما يجعله متواصلا في سؤاله عن آيات استوقفته، فما إن وفقنا الله إلى الإجابة عما سبق حتى بادرني بسؤال ذي شقين:
قال: قال تعالى :﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ﴾ (1) أهذا تكرار لتوكيد المعنى ومراعاة الفاصلة القرآنية؟ وهل معنى (الناس) في الآيات هو هو؟
لقد بدا هذا التلميذ في سؤاله أكثر عمقا في النظر، وأدق بحثا عن مكامن البلاغة والإعجاز، فشكرت له هذا النضج، ومضيت معه أبحث عن جواب مناسب.
معنى المفردات:
إن النظر في المادة اللغوية يترتب عليه الإحاطة بحياة الألفاظ، ومسيرتها الدلالية، لذا أن "أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن، العلوم اللفظية. فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه"(2) حتى "إذا ما فرغ من البحث في معنى اللفظة اللغوي، انتقل بعده إلى معناها الاستعمالي في القرآن، يتتبع ورودها فيه كله، لينظر في ذلك، فيخرج عنه برأي عن استعمالها"(3). ثم "تترقى إلى الكلام المؤسس على علمي المعاني والبيان"(4) لأن "اختلاف المعنى مترتب على اختلاف النظم"(5) لإدراك خصائص التراكيب العربية ومعرفة مزاياها في القرآن الكريم. ونحاول هنا أن نقف على كتب اللغة نستفتيها:
مادة (ر ب ب):
قال الخليل (ت نحو 175 هـ): "ومن ملك شيئا فهو ربّه، لا يقال بغير الإضافة إلا لله عزوجل"(6). وقال الراغب الأصفهاني (ت 502): "الربُّ في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، يقال: ربَّهُ ورباه ورببه... ولا يقال الربّ مطلقا إلا لله تعالى... وبالإضافة يقال له ولغيره نحو قوله (رب العالمين)، و(ربكم ورب آبائكم الأولين)، ويقال ربّ الدار وربّ الفرس لصاحبهما، وعلى ذلك قول الله تعالى: "(اذكرني عند ربك  فأنساه الشيطان ذكر ربه)..."(7). وقال ابن منظور (ت 711 هـ):"ربّ كل شيء مالكه ومستحقه وقيل صاحبه ويقال فلان ربّ هذا الشيء أي ملكه له، وكل من ملك شيئا فهو ربّه، يقال هو ربّ الدابة، وربّ الدار، وفلان ربّ البيت"(8). وقال الفيروزأبادي (ت 817 هـ): "الرب أي الله تعالى"(9).
مادة (م ل ك):
قال الخليل :"المملكة سلطان الملك في رعيته"(10). وقال الراغب الأصفهاني :"الملك هو المتصرف بالأمر والنهي في الجمهور، وذلك يختص بسياسة الناطقين، ولهذا يقال ملك الناس"(11). وقال ابن منظور: "أما ملك الناس وسيد الناس وربّ الناس أراد أفضل من هؤلاء، الملْك، والملِك، والمليك، والمالك: ذو الُملْك"(12). وقال الفيروزأبادي :"وكـ(كَتِف) وأمير وصاحب ذو الملك، ج ملوك وأملاك وملكاء وملاك "(13).
مادة (ن و س):
قال الخليل :"وأصل الناس أناس..."(14). وقال الراغب الأصفهاني :"الناس قيل أصله أناس فحذف فاؤه... والناس قد يذكّر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود الفضل والذكر وسائر الأخلاق الحميدة، والمعاني المختصة به... أي من وُجد فيه معنى الإنسانية، وربما قُصِدَ به النوع "(15). وقال ابن منظور :"الناس قد يكون من الإنس ومن الجن، وأصله أناس فخفف"(16). وقال الفيروزأبادي:"والناس يكون من الإنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل"(17).
نخلص مما تقدم إلى أن "الرب" بدون إضافة لا يقال إلا لله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: ﴿بلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور﴾ (18) وإذا أضيف يقال لله ولغيره، كقوله تعالى:  ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ (19). وأن (الناس) أصلها أناس.
ما قاله المفسرون:
  تفاوت كل من تصدى لبيان معاني القرآن الكريم في الوقوف على سورة الناس، فمنهم من لم يقف على الآيات الثلاث التي بدئت بها السورة (20). ومنهم من وقف على الآيات موضع السؤال وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى، وهي على وجاهتها وحسن تأتيها لما تنطوي عليه هذه الآيات من معان لم يترجح عندي مذهب منها، ولكنها ولها الفضل هدتني إلى مذهب فيها سنذكره لاحقاً بعد أن نفرغ من ذكرها على سبيل عرضها والتقاط ما نراه مؤيداً لنا:
................................
المراجع:
(1)    الناس 1-3.
(2)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، ص10.
(3)    أمين الخولي: مناهج تجديد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995م، ص238.
(4)    الزمخشري: الكشاف، 1/97.
(5)    عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة/جدة،ط3، 1992م،ص51.
(6)    الخليل: العين، مادة (ر ب ب).
(7)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن ، ص510.
(8)    ابن منظور: لسان العرب، مادة (ر ب ب).
(9)    الفيروزأبادي: القاموس المحيط، مادة (ر ب ب).
(10)    الخليل: العين، مادة (م ل ك).
(11)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، ص475.
(12)    الفيروزأبادي: القاموس المحيط، مادة (ن و س).
(13)    ابن منظور: لسان العرب، مادة (ن و س).
(14)    الخليل: العين، مادة (ن و س).
(15)    الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، ص510.
(16)    ابن منظور: لسان العرب، مادة (ن و س).
(17)    الفيروزأبادي: القاموس المحيط، مادة (ن و س).
(18)    الناس/15.
(19)    يوسف/50.
(20)    ينظر: معاني القرآن، 3/302. أبو عبيدة: مجاز القرآن، 2/317. الزجاج: معاني القرآن وإعرابه، 5/381. لفت نظري موقف عجيب، فانظر ماذا قال المحقق: "سبق أن الزجاج لم يفسر هذه السورة وكرهنا أن ندعها بدون تفسير فشرحنا هذه الكلمات شرحا لغويا قريبا من طريقته: فهل يجوز هذا يا أهل التحقيق؟!. البغوي: معالم التنزيل، 6/540. ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز، 5/540. السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، 6/470. محمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، عالم الكتب بيروت، د.ت، 10/350.
(21)   

تعليق عبر الفيس بوك