دور أسواق رأس المال في التنمية الاقتصادية

 

خلفان الشرجي

أصبحت أسواق رأس المال من الركائز الأساسية في دعم التنمية الاقتصادية بمختلف دول العالم وخاصة تلك المُتقدمة منها أو الناشئة، حيث تعتبر القاعدة الرئيسية التي يتم الاعتماد عليها في خلق شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، وتوفير التمويل اللازم لتنفيذ مشاريع تنموية واستثمارية ضخمة داعمة للاقتصاد، والتي عادة لا يستطيع مستثمر واحد أو مجموعة صغيرة من المستثمرين تمويلها. كما أصبح أداؤها يدخل ضمن المؤشرات التي تقيس تنافسية الدول.

ويعتبر تحريك المدخرات واستقطاب رؤوس الأموال وتوجيهها إلى المشاريع التنموية عن طريق الدعوة العامة للاكتتاب في الإصدارات الخاصة بها إحدى المهام الرئيسية لأسواق رأس المال. الأمر الذي يضمن تمويلاً قليل الكلفة ويوفر فرصًا استثمارية ذات عوائد مناسبة للأفراد والمؤسسات على حد سواء.  وكل ذلك ينعكس إيجاباً على مستوى ضمان التوزيع العادل للثروات الوطنية وتعظيمها.

وإذا ما استعرضنا تاريخ أسواق رأس المال منذ بدايات القرن السابع عشر الميلادي، فسنجد أن ريادة الهولنديين في أسواق رأس المال في تلك الفترة مكنتهم من التفوق على البريطانيين في أكثر من مجال، وذلك بالرغم من كونهم في دولة أصغر من جميع الجوانب. ومع تعاون البريطانيين مع الهولنديين اكتسبوا الخبرة في كيفية تشغيل أسواق رأس المال والاستفادة منها. وبالتالي فإنّ أحد الأسباب الرئيسية لتفوق المملكة المتحدة عالميًا ونشوء الإمبراطورية البريطانية في تلك الفترة هو قدرتها على الاستفادة القصوى من أسواق رأس المال عن طريق الحصول على التمويل اللازم لمشاريعها من العامة وبنسب فائدة منخفضة، وهو مالم يكن متاحًا في ذلك الوقت لدول أخرى مثل فرنسا بالرغم من أن لديها كثافة سكانية أكثر بثلاثة أضعاف.

ومع بداية القرن التاسع عشر أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أهمية أسواق رأس المال وشرعت في إصدار القوانين المنظمة لها، وسخرت التطور التكنولوجي الذي شهدته في تفعيل دور أسواق رأس المال وتحقيق الاستفادة القصوى منها، والنتيجة نشوء كيانات استثمارية وتجارية عملاقة أدت إلى خلق اقتصاد جبار عزَّز من قدرة الولايات المتحدة في الهيمنة على الاقتصاد العالمي إلى يومنا هذا.

وفي الوقت الراهن فقد أكدت العديد من التقارير أنَّ وتيرة النمو الاقتصادي في الدول التي تستغل أسواق رأس المال في دعم التنمية الاقتصادية أسرع وأكبر من تلك التي لم تقم بذلك، حيث يؤدي ذلك إلى تحقيق تسارع أعلى في نمو إنتاجية المشاريع التنموية وارتفاع الأجور الحقيقية وازدياد فرص العمل وتخفيف الأعباء المالية والإدارية على كاهل الحكومة ويؤدي إلى استقرار أفضل في أداء الاقتصاد الكلي.

وبالتالي يُمكن القول إنَّ هناك ارتباطا مباشرا بين أداء سوق رأس المال والنمو الاقتصادي في كل دولة، ويمكن التحقق من ذلك من خلال النظر في العلاقة بين أداء الناتج المحلي الإجمالي وأداء أسواق رأس المال في الاقتصاديات المتقدمة. وعليه صار التوجه إلى أسواق رأس المال في مقدمة الإجراءات والخطوات الرئيسية في الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها الدول.

فعلى سبيل المثال فإنَّ أحد الأسباب الرئيسية لتسارع نمو الاقتصاد الصيني خلال العقود الثلاثة الماضية هو اعتمادها على سوق رأس المال كمصدر أساسي لتمويل المشاريع التنموية. فإنشاء سوق رأس المال كان من ضمن أولويات خطة الإصلاحات الاقتصادية التي اتبعتها الصين في نهاية سبعينيات القرن الماضي من أجل تحرير اقتصادها وفتحه للعالم الخارجي. ويعتبر سوق رأس المال في الصين حاليًا منصة هامة لضمان الاستغلال الأمثل لتوزيع الموارد وتعزيز الثروة القومية وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة. وهذا التوجه جعل من السوق الصيني نقطة استقطاب لرؤوس الأموال الأجنبية، وأصبحت الآن تعتبر إحدى أكبر أسواق رأس المال على مستوى العالم.

وفي معظم الدول العربية ومنها السلطنة لم يتم استغلال سوق رأس المال وتوظيفها بالشكل الأمثل في دعم التنمية الاقتصادية، حيث تعتبر مؤشرات سوق رأس المال العماني الأقل بين قريناتها في دول الخليج، سواء من حيث الحجم أو نسبة المساهمة في الناتج المحلي أو عدد المستثمرين فيها. وذلك على الرغم من قابليته الكبيرة للنمو وإمكانياته العالية في تمويل المشاريع التنموية، وجاهزية بنيته التحتية لاستيعاب أحجام كبيرة من التعاملات.

فالبيانات الإحصائية الصادرة من سوق مسقط للأوراق المالية تشير إلى أن وتيرة نمو أرباح وإيرادات شركات المساهمة العامة المدرجة في سوق مسقط للأوراق المالية خلال الفترة من العام 2005 وإلى العام 2013 هي أسرع بثلاث مرات من وتيرة نمو إجمالي الناتج المحلي للاقتصاد الوطني في السلطنة خلال نفس الفترة.

وفي ضوء ما تشهده أسعار النفط من تراجع وعدم استقرار أو وضوح لتوجهها المستقبلي، وتأثير ذلك على الأوضاع الاقتصادية لمعظم الدول المصدرة للنفط وخاصة تلك التي تعتمد عليه بنسبة كبيرة في إيراداتها. فإن الأمر يتطلب وبصورة ملحة إعادة النظر في كيفية الاستفادة من قطاع سوق رأس المال كمصدر لتمويل المشاريع التنموية ولتخفيف الأعباء المالية والإدارية عن الدولة. وذلك يمكن أن يعتبر أحد الخيارات الأساسية التي يتم اتباعها لمواجهة آثار انخفاض أسعار النفط.

وهناك عدة خيارات للاستفادة من سوق رأس المال، منها اللجوء إلى سوق الدين (Dept Market) وإصدار سندات الحكومية أو صكوك سيادية، إلا أن الركون إلى ذلك بشكل كبير قد يؤثر مستقبلاً في القدرة على الوفاء بالالتزامات المرتبطة بهذه الإصدارات فيما لو استمر وضع أسعار النفط على ما هو عليه.  

ومن الخيارات المتاحة أيضًا التوجه إلى سوق الأسهم (Equity Market) عن طريق تخصيص جزء من المؤسسات والمشاريع الحكومية القائمة وطرحها للعامة، وهذا الخيار قد يكون الأمثل في المرحلة الحالية وذلك للمزايا الكثيرة التي يمكن أن يوفرها والتي من ضمنها:

  • تخفيض العجز في الموازنة العامة بالقضاء على الدعم الموجه للمؤسسات المملوكة للدولة والحصول على إيرادات من عائدات البيع والتحرر من تمويل القطاعات التي تحتاج لرؤوس أموال كبيرة. (والحصول على ضرائب من الشركات بعد خصخصتها).
  • تحسين الكفاءة الكلية للاقتصاد وتسريع النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل واستخدام عائدات التخصيص لتعزيز التنمية في قطاعات اقتصادية جديدة.
  • تحسين المالية العامة من خلال تخفيف الأعباء المالية والإدارية عن الحكومة، وتقليل آثار أية مخاطر قد تتعرض لها تلك المشاريع.
  • إعادة هيكلة وتحسين فعالية المؤسسات المملوكة للدولة (تشمل التمويل، الإدارة، الممارسة والتقنية)، وإتاحة وضع أفضل لتنويع الاستثمار وتحقيق خطط التوسع فيها. وتوفير تقييم صحيح وعادل لقيمة الأصول وضمان مستوى أعلى من الرقابة والشفافية في الأداء.
  • استقطاب سيولة إضافية في القطاع المصرفي من خارج الدولة، فعادة ما يستقطب تخصيص المشاريع الكبيرة كتلك المرتبطة بالنفط والصناعات البتروكيماوية سيولة مالية ضخمة إلى داخل الدولة.
  • توزيع الثروة وتوسيع الملكية من خلال إشراك قاعدة أوسع من المواطنين والمقيمين في التنمية الاقتصادية. كما أن ذلك يمكن أن يصاغ على شكل استراتيجية يتم من خلالها استقطاب جزء كبير من التحويلات التي يقوم بها العمال الأجانب (expatriate worker remittances) إلى خارج السلطنة والتي بلغت في العام 2016 ما يقارب من 4 مليارات ريال عماني، وتدويرها داخل الاقتصاد الوطني.

 

وفي الختام يجب ألا نغفل أن تحقيق الاستفادة بشكل كبير وعملي من قطاع سوق رأس المال يتطلب توحيد الجهود والتوجهات بين الجهات المشرفة على السوق والجهات التي تقود دفة الاقتصاد من خلال اتباع سياسة ومنهجية موحدة في تنفيذ المشاريع التنموية كبيرة الحجم قوامها الاعتماد بشكل أساسي على قطاع سوق رأس المال في تمويل المشاريع الاستراتيجية وخلق شراكة حقيقية مع القطاع الخاص.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك